إغلاق "بيت الضيافة" في مسقط

د. عبدالله باحجاج

تأسس بيتُ الضيافة في مسقط، مطلع السبعينيات في بداية حكم السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لاعتبارات اجتماعية خالصة، عكست تقديرًا إنسانيًا رفيعًا ومُستحقًا للحالات الاجتماعية في محافظة ظفار التي لا تُمكِّنُها ظروفها المالية من مُراجعة المستشفيات المركزية المتقدمة في مسقط، أو متابعة احتياجاتها الأخرى؛ سواءً الاعتيادية أو الطارئة، وهي اعتداد سياسي بالبُعد الجغرافي بين ظفار والعاصمة مسقط، وهي مسافة تقدر بأكثر من ألف كيلومتر، وتأثيره على موازنات الأسر.

وهذا البيت كان يمنح لهذه الحالات حق السكن لثلاث ليالٍ، وقد تكون أكثر إذا ما ثبت أنَّ الحالة المرضية تستدعي المزيد من الفحوصات.. إلخ، ولا يطلبُ السكن في هذا البيت إلا الحالات التي لا تتمكن من الاستئجار في العاصمة وما يتبع ذلك من مصروفات الأكل وغيرها، وكان بيت الضيافة يتبع مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار- آنذاك- قبل أن يتحول إلى مكتب محافظ ظفار.

فهل يعني إلغاء بيت الضيافة انتهاء الأسباب والمسوغات الاجتماعية التي كانت وراء إقامته؟ وهنا نسأل عن طبيعة الأسباب والمسوغات وهي متعددة، ومنها الصحية؛ حيث تتمركز الخدمات الصحية المتقدمة الحكومية والخاصة في مسقط، وارتفاع سعر تذكرة الطيران من ظفار إلى مسقط، وغلاء السكن والمعيشة في مسقط، وأوضاع المواطنين المالية الصعبة، ولذلك أضفى بيتُ الضيافة على البعد الاجتماعي / الإنساني روابط قلبية عززت منظومة الولاء والانتماء. فهل تغيرت إيجابًا تلكم الأوضاع حتى يتم إغلاق بيت الضيافة، أو أن هناك عزوفًا اجتماعيًا عنها؟

تظلُ كل الأوضاع التي كانت سببًا وراء إقامة بيت الضيافة قائمة، وبعضها ازداد سوءًا، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار حالات التقاعد الإجباري، والباحثين عن عمل، والضرائب، وتقليص الدعم الاجتماعي عن بعض الخدمات، وغلاء المعيشة. إذن.. لماذا يُغلق بيت الضيافة الآن؟

تلقينا اتصالات من ساكني البيت يُعبّرون عن استيائهم لنبأ الإغلاق، وقالوا إن ظروفهم المالية لن تسمح لهم باستئجار حتى غرفة في مسقط، وتساءلوا: "أين نذهب إذا ما حُملنا على مغادرة بيت الضيافة؟ هل نترك مرضانا في المستشفيات دون متابعة؟ لدينا كل التقدير بمعاناة هذه الفئات من المواطنين، ونتلبسها كواقع وليس تمثيلًا وذلك لتموقعنا الاجتماعي، ولا نتصور هنا، أن  كل مقتدر أو في الحد الأدنى من المقدرة المالية يُفكر في بيت الضيافة، فالإقامة عبارة عن سرير نوم للشخص وفق مجموعة شروط؛ مثلًا: عدم الدخول أو الخروج من البيت الساعة الثانية عشرة ليلًا.. إلخ.

وقد تواصلت مع مصدر رسمي مطلع بالتفاصيل، وأكد لنا التوجه نحو إغلاق البيت رغم استمرارية الطلب الاجتماعي، والإغلاق الآن هو مساس بالحمولة الاجتماعية المادية والمعنوية في أدق خصوصياتها، فهل وراؤه توفير مالي لخزينة الدولة؟ وكم يستنزف البيت من مالية الدولة؟ وإغلاق بيت الضيافة الخاصة بالمحتاجين فقط، يؤكد ضرورة إغلاق بيوت الضيافة للوزارات إذا ما وصلنا إلى هذا المستوى من ترشيد الإنفاق، رغم أن بلادنا لم تعد في مرحلة شد الأحزمة، كما إن هناك أمور أخرى عُليا ومتوسطة لا بُد أن تُمس إذا ما سمحنا بالمساس ببيت الضيافة، وربما لا يُدرك صاحب قرار الإغلاق الأبعاد المترتبة على مثل هذه الخطوة. ويبدو أن مثل هذه الإجراءات ليس لها حدود أو ضوابط حاكمة لها، ويبدو أن هناك إجراءات تُطبّق دون مراعاةٍ للخصوصيات الديموغرافية والجغرافية في مرحلة اللامركزية التي لم تتأسس أركانها ومقوماتها بعد، حتى تكون بديلًا فاعلًا عن المركزية القائمة حاليًا.

ويأتي إغلاق بيت الضيافة في سياق تقليص الوضع الإداري لمُمَثِليَّة مكتب محافظ ظفار في مسقط، من مديرية عامة إلى دائرة، فهل هذا  التقليص الإداري يستوجب أن يشمل الأبعاد الاجتماعية الإنسانية كذلك؟! ومهما كان جوهر الإصلاحات، فلا ينبغي أن تمس بيت الضيافة، وهي من المبادرات القليلة التي تصهر السيكولوجية الاجتماعية في بوتقة الانصهار الجغرافي الوطني.

ولا يقتصر طلب السكن في بيت الضيافة في مسقط على أهالي ظفار فحسب، بل كل الساكنة العُمانية المقيمة في ظفار، والذين تدفع بهم الحاجة لزيارة مسقط للعلاج أو لمعاملات مركزية، وأوضاعهم المالية معقدة، فهي استثنائية للساكنة العمانية في ظفار، لمن تتوافر فيهم شروط استحقاق السكن المؤقت في بيت الضيافة في مسقط، وإذا كان لابُد من المساس بمثل هذه المبادرات، فينبغي أن تُقابلها خطوات ضرورية، وهي جعل كل الخدمات متوفرة في المحافظات وليس فقط في العاصمة مسقط، أو أن تكون في متناول المقدرة المالية لكل المواطنين، مثل خفض سعر تذاكر الطيران.

وقد ورد إلينا نبأ غير مؤكد بإغلاق مكتب وزارة الخارجية في محافظة ظفار، وهذا مؤشر بعودة المركزية مع التمركز، مما يُفسر هذه الخطوة على أنها خارج التوجهات الجديدة للدولة التي تتبنى اللامركزية تسهيلًا على المواطنين، وتقديرًا لظروفهم المالية، وصناعة تنمية شاملة، تستوعب الديموغرافيا داخل ترابها الوطني، وليس لها من تفسير سوى ما ذكرناه سابقًا، وهو أن هناك منظومة جديدة جامدة تُعيد هندسة الأوضاع الشاملة، وتُطبَّق بشدة دون الاعتداد بالديموغرافيات أو الجغرافيات، فهل هو الأصح لوطننا.. ربما علينا هنا المطالبة بدراسته من كل الحقول المتخصصة حتى نتمكن من إعداد خارطة بحجم النتائج والتداعيات معًا.