د. مجدي العفيفي
كثيرة هي وثمينة، تلك الرسائل التي تلقيتها تعقيبا وتعليقا على هذه السلسلة، وكلها تصب غضبها الموضوعي على هذه الحملات المشبوهة التي يقودها مجموعة من النفايات البشرية الحاقدة على الإسلام علماء وأعلاما وعلوما، وحاضرا وحضارة؛ سواءً أكان هؤلاء في الخارج حيث الهيئات الماسونية الصهيونية، والجماعات المنظمة التي تنز وتنزف حقدا دفينا، أم في الداخل حيث تلك الأبواق التي تردد ما يملى عليهم منهم كالببغاوات، للقيام بدور التشويش والتشويه، ولو على طريقة (العيار اللي ما يصبش بيدوش)، بعد أن انتزع أصحاب الأقلام الحرة الغيورة، أقنعة شتى من وجوه تفتت من كثرة الالتصاق.
ولأن هذه القطعان ساذجة، فقد أوقعوا أسيادهم في موقف مزرٍ (باعترافهم من داخل المحفل الماسوني الأعظم)؛ إذ ينتقدون الإسلام بلا وعي أو منهجية، فأدرك هؤلاء الخصوم وهم أيضا خصوم الإنسانية الجدد ومن قبلهم التقليديون، في الإعلام والفن والبحث والثقافة والمعارف، أنهم ساقطون، فغيّروا من استراتيجيتهم، فدعموا أشخاصا آخرين ومؤسسات جديدة، وخصصوا لهم مساحات هائلة في الميديا، لعلهم يفلحون.. ولكن هيهات.
وقد أشرت في الأسبوع الماضي، إلى أن هؤلاء الصغار، عندما فشلوا في الطعن في القرآن الحكيم وفي رسول الله سيدنا وسيد العالم محمد خاتم النبيين، لجأوا إلى المحاولات الصبيانية لتشويه علماء الإسلام فكرا وفقها وشريعة وطريقة، وفي سياق الخيبة التي لاحقت أولئك الصغار الذين تهجموا على عالمنا الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي، أعرض هذه الصفحة من مذكرات أنيس منصور، التي لم تنشر؛ إذ أعكف عليها توثيقا وتحقيقا وتدقيقا، طبقا لوصية أستاذي لي قبيل الرحيل، ضمن أوراق ومخطوطات ثمينة، ولكل ورقة موعدها، ولكل مخطوط مناسبته.
والورقة تكشف أن جذور الهجوم على شيخنا الجليل رحمه الله، تعود إلى الكيان الصهيوني في فلسطين، وهي ضمن مئات الأوراق والصفحات في مذكرات «مشواري السري» تعد من أهم وأخطر مذكرات أنيس منصور السياسية التي ظل عليها عاكفًا عدة سنوات، ويصفها بأنها مذكرات «من نوع خاص»، وعلى «قدر كبير من الخطورة» لها علاقات معقدة بالأمن المصري العام، كما تمس جوانب كثيرة من أوضاع الأمن الصهيوني، وفيها نصوص ووثائق سياسية وعسكرية، ومخاطبات في الجاسوسية، ووقائع لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها إلا مغامر ومعايش لها، بل ومشارك فيها.
وفي هذه المذكرات يزيح أنيس منصور النقاب لأول مرة عن كثير من المهام الصعبة والسرية في الرحلات المكوكية التي كان يقوم بها مباشرة بين الرئيس الراحل أنور السادات وحكام إسرائيل، باعتباره «موفد السادات» في نظر القيادة الإسرائيلية السياسية، ولم يكن يعلن عنها، حتى تؤتي ثمارها، وكما قال لي بالحرف الواحد «لقد استغرقني هذا العمل الحساس تمامًا في السنوات الأخيرة، ولا سيما أنها مهام لم يكن يدري بها أحد، لا رئيس الوزراء، ولا وزير الخارجية، ولا وزير الداخلية، ولا أجهزة المخابرات، العربية والأجنبية، وما دون ذلك».
الورقة التي قضت مضاجع حكام الكيان الصهيوني وعلى رأسهم الإرهابي الأكبر «مناحم بيجين» رئيس وزراء الكيان، في غضون توقيع معاهدة السلام إياها، يشكو فيها من الشيخ الشعراوي، أيام بدأ فضيلته يطرح خواطره حول القرآن الكريم عبر شاشة التليفزيون المصري كل يوم جمعة، في النصف الثاني من عقد السبعينيات، خاصة وهو في ظلال سورة البقرة يحلل ما ذكره القرآن عن اليهود، يقول أنيس منصور:
«أرسل مناحم بيجين خطابًا طويلًا إلى الرئيس السادات يشكو من أحاديث الشيخ متولي الشعراوي، وجاء في إحدى الرسائل أنه يهاجم اليهود لا في إسرائيل، وإنما في كل العالم، مما يؤدي إلى نشر كراهية اليهود، وتهديد السلام بين البلدين. وفي رسالة أخرى تضايق منها الرئيس السادات، فكلام بيجين معناه أنه قد ضاق بما يقوله الشعراوي، ولا بد أن يجد الرئيس حلًّا أو حدًّا لذلك.
وطلب مني الرئيس السادات أن أشاهد الأحاديث الأخيرة للشيخ الشعراوي. وعدت للرئيس أبلغه أنها عادية، فالشعراوي أحد علماء البلاغة القرآنية، ولم يذهب بعيدًا في تفسير القرآن.
وتلقيت من د. بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية، نص الخطاب الذي ألقاه وزير التعليم الإسرائيلي، وفي الخطاب يقول: إنه لن يتحقق السلام إلا إذا حذفنا من القرآن الكريم الآيات التي تتهجم على اليهود، فأرسلني الرئيس السادات لكي أقابل بيجين وأقول له: إما أن تتوقف عن اتهاماتك للشعراوي، وإما أن ننشر خطاب وزير التعليم على أوسع نطاق، ونوقظ الكراهية النائمة عند ملايين المسلمين! وقرر بيجين أن يكف عن مهاجمة الشيخ الشعراوي، وأن يخرس وزير التعليم في إسرائيل».
وفي السياق الصهيوني نفسه يكتب أنيس منصور.
«مرة أخرى فوجئنا في مصر بكتب مطبوعة في إسرائيل لمذاهب إسلامية منحرفة، فأوفدني الرئيس مبارك لمقابلة رئيس الدولة إسحاق نافون، وقرأت عليه الرسالة، وذكرت أسماء الكتب التي فوجئنا بتوزيعها في القاهرة، ولا نعرف كيف دخلت، وكيف انتشرت، فأعلن الرئيس نافون أسفه، وأنه لا يعرف شيئًا عن هذه الكتب، وركبت سيارة واتجهت إلى الشارع الذي توجد به المطبعة التي نشرت هذه الكتب، فلا وجدت الشارع ولا المطبعة في مدينة حيفا، وإذا كان أحد يهاجم دين أحد ففي إسرائيل، ولكننا لا نطبع ولا ننشر أي شيء يعادي السامية لسبب بسيط جدًّا، وهو أن أنبياءنا جميعًا ساميون: موسى، وعيسى، ومحمد. وكذلك أصحاب الرسالات الإصلاحية: بوذا، وكونفوشيوس، وزرادشت، أما أعداء السامية فهم الخواجات الأوروبيون الذين يحكمون إسرائيل، ويقتلون الساميين أبناء فلسطين!».
كل هذا الهجوم كان مجرد زوبعة في فنجان مقلوب، كلهم اندحروا واختفوا.. وبقيت حلقات الشيخ الجليل الشعراوي التي استمرت 23 سنة ساطعة، يتداولها الناس في العالم وتوزع كتبه بالملايين، وتعرض تسجيلاته معطرة بخواطره الرائعة حول التنزيل الحكيم، وهو العالم الوحيد الذي لم يذكر أبدا أنه يقدم «تفسيرا» للقرآن، فمن ذا الذي يفسر كلام رب العالمين (!) لذلك آثر رحمه الله، أن تنضوي جميع تسجيلاته وكتبه القرآنية تحت عنوان «خواطري حول القرآن الكريم».
حقا .. ما أعظمك أيها العالم الجليل..
وما أصغر شأن من هاجموك ويهاجمونك..
صدق ربنا العظيم في محكم التنزيل: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ" (الرعد: 17).
وإلى اللقاء مع رسائل القراء، إن كان في العمر بقية.