د. يوسف بن حمد البلوشي
تبرهن الدراسات والنظريات الاقتصادية، على أنَّ عدد السكان وتركيبتهم ونسيجهم الاجتماعي تمثل عوامل حاسمة في تقدير جاهزيّة الدول، وتعكس قدراتها على إدارة الجوانب الاقتصادية والإدارية وحتى العسكرية بأيادٍ وطنية، والتي تظل العنصر والركيزة التي تستند عليها تجارب التنمية الناجحة في مختلف الدول.
وعلى الرغم من تباين الآراء حول ضرورة زيادة عدد السكان بين رأيٍ مُؤيدٍ يعتقد أنَّ هذه الزيادة تعد ضرورة ملحة ولها انعكاسات إيجابية على تحفيز الطلب المحلي على السلع والخدمات المرتبط بزيادة النشاط الاقتصادي وحجم الناتج المحلي الإجمالي، وخلق فرص العمل وتطوير الولايات والمحافظات. وبين رآي آخر مُتحفظٍ على زيادة عدد السكان؛ إذ يؤمن بأن عُمان يجب أن تبقى للعُمانيين محافِظةً على هويتها ومصانة في إرثها وتراثها، وأن زيادة عدد السكان يعني زيادة الضغط على البنى الأساسية واستنزاف الموارد، وإعاقة التنمية، وكذلك مزيد من التلوث والازدحام. ويرى أصحاب هذا الرأي أيضًا أن زيادة عدد السكان ليست الحل الوحيد لتعزيز النمو الاقتصادي.
أما الرأي الثالث فيُشير إلى أن النمو الاقتصادي في عُمان يحتاج إلى زيادة كثافة سكانية نوعية وذات سمات وخصائص مُعينة، كتلك المرتبطة بالمرحلة السنية، ومن هم في سن العمل ويتمتعون بمهارات ومواهب متميزة؛ باعتبارهم وقود التنمية والنشاط الاقتصادي، وأن النموذج التنموي المستقبلي سيكون قائمًا على اقتصاد المدن والتي تحتاج الى حدٍ أدنى من الكثافة السكانية لإعطاء مسوّغات كافية لقيام ونمو أي نشاط اقتصادي.
وأيًّا ما كانت وجهة النظر، فإن المنظور الاقتصادي يؤمن بأن زيادة عدد السكان ونوعيتهم مطلبٌ مهمٌ لنمو الطلب المحلي على السلع والخدمات وتشغيل قاطرات التنمية في القطاعات الاقتصادية المختلفة وتعظيم الموارد المحلية في محافظات عُمان من أقصاها إلى أقصاها. ولا يخفى أن هناك العديد من السبل التي تلجأ إليها الدول لزيادة عدد السكان؛ من بينها تشجيع المواطنين على زيادة المواليد وتقديم حوافز في هذا الشأن.
والترويج لسلطنة عُمان كوجهة سياحية من شأنه زيادة عدد الأشخاص الذين يزورون السلطنة ويقيمون لفترات طويلة، وقد بدأ الكثير من الدول في تبني برامج خاصة لاستقطاب المواهب وتجنيس الكفاءات من مختلف دول العالم؛ حيث يسهم استقطاب الكفاءات وأصحاب المهارات المتخصصة في تسريع جهود الارتقاء بالوطن بسواعد إضافية تمتلك مواهب خاصة قادرة على الابتكار في قطاعات حيوية وتسريع وتيرة تحقيق المستقبل المنشود لاقتصاد المعرفة والتحول الرقمي الشامل، والعمل يدًا بيدٍ مع الكوادر الوطنية من أجل صياغة ورسم السياسات العامة للمرحلة المقبلة.
وفي السياق الخليجي، نرى المملكة العربية السعودية الشقيقة وتماشيًا مع رؤيتها "المملكة 2030"، تعلن عن فتح الباب لتجنيس مختلف الكفاءات الشرعية والطبية والعلمية والثقافية والرياضية والتقنية التي بإمكانها تحقيق قيمة مضافة للبلاد وتعزيز عجلة التنمية. وفي سبيل ذلك، تم إقرار مجموعة من الإجراءات والتعديلات في قانون الإقامة والتجنيس. وقررت السعودية، في عام 2019، منح "الإقامة المُميزة" للأجانب الأثرياء وذلك لتعزيز المزيد من الانفتاح على الطاقات ورؤوس الأموال من مختلف الجنسيات، والتي ستسهم في تنويع موارد الاقتصاد السعودي بعيداً عن المصادر النفطية التقليدية. وكذلك الأمر في الجارة الشقيقة دولة الإمارات العربية المتحدة التي قررت في وقت مبكر منح جنسيتها للمستثمرين والموهوبين والمتخصصين من العلماء والأطباء.
وفي السياق المحلي، فإنَّ سلطنة عُمان دولة ذات كثافة سكانية منخفضة، الأمر الذي يحد من حجم السوق ومعدل الطلب المحلي على السلع والخدمات، مما يقلص القدرة على جذب الاستثمارات الخارجية وإقامة الصناعات المحلية، ما لم تكن موجهة للتصدير، وهذا أمرٌ يؤكد على أهمية الانفتاح وفتح أسواق تصديرية ومد الجسور إلى الأسواق الواعدة، وتعزيز ونشر ثقافة التصدير في مجتمع الأعمال المحلي.
وعلى المستوى الاستراتيجي.. لم تغفل رؤية المستقبل "عُمان 2040" تبني توجه استراتيجي نحو مزيد من الانفتاح والاندماج والتعاون الدولي واستقطاب الكفاءات، والذي نأمل أن يرى طريقه إلى التنفيذ، من خلال مراجعة العديد من الإجراءات والقوانين في هذا الشأن. ويرى الكثير من المراقبين أهمية تبنّي السلطنة مبادرات جادة لاستقطاب وتعزيز القدرات في السلطنة عبر دعوة أصحاب الكفاءات والمواهب المتميزة والمهارات المتخصصة للمساهمة، وأداء دور فاعل في تصميم مستقبل القطاعات الحيوية والجديدة، من خلال تكامل الجهود وإشراكهم في رسم طريق المستقبل. ولأن السباقَ محتدمٌ في استقطاب هذه الفئات، فعلينا في السلطنة توفير بيئة حاضنة، والعمل بانسجام لبلورة حوافز مشجّعة وبناء آفاق واضحة للنمو.
ويمكن أن تحقق زيادة عدد السكان العديد من المكاسب للاقتصاد العُماني؛ من بينها: زيادة الطلب على السلع والخدمات، وخاصة زيادة الاستهلاك المحلي؛ مما يساعد في تحفيز الصناعة المحلية والنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. علاوة على أنه سيوفر قوى عاملة أكثر تنوعًا في المهارات، والتي ستساهم في ظهور وتطوير أعمالٍ وصناعات جديدة، كما إن زيادة عدد السكان في الولايات والمحافظات يمكن أن يضاعف فرص الاستثمار والنشاط الاقتصادي بشكل عام. والأهم من كل ذلك، التقليل من هجرة رؤوس الأموال خارج الوطن وإعادة استثمارها محليًا.
لا يفوتنا- في هذا السياق- الإشارة إلى أننا في السلطنة نعاني من شحٍ في دراسات الأثر المتعمقة للقضايا الاستراتيجية والمتغيرات الاقتصادية الكبرى، والتي من شأنها تزويد متخذي القرار بمُدخلاتٍ رصينةٍ للسياسات العامة للدولة، خلال المرحلة المقبلة، ونذكر هنا- على سبيل المثال لا الحصر- أثر زيادة عدد السكان بنسبة معينة على نمو الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع عدد الوظائف الجديدة المتولّدة، وانعكاسات ذلك على موارد المالية العامة، وزيادة الإنفاق على البنى الأساسية والخدمات وتنمية المحافظات والقطاعات الواعدة.
وختامًا.. نؤكد أن المستقبلَ ملكُ من يصنعه، ونحن قادرون على صناعة المستقبل الذي يضمن الحياة الكريمة ويوفّر الوظائف المُنتِجَة لأبناء هذا الوطن العزيز، وكذلك مواصلة بناء قدرات وطنية في كل المجالات. ولا معنى- في تقديري- للتأخر في التوجه نحو مزيد من الانفتاح واستقطاب المواهب والسُيّاح والمستثمرين والطلبة، في ظل ما يشهده العالم من تحول ملحوظ على مختلف الأصعدة؛ تماشيًا مع تسارع وتجدد الأولويات، وتعاظم التحديات. وعلى الرغم من إيماننا المُطلق بسلامة السياسات العامة في عُمان، والتي حققت أهدافها في مراحل سابقة من عمر مسيرتنا التنموية، إلّا أن طبيعة المرحلة الراهنة والمقبلة وتحدياتها، جنبًا إلى جنب مع جاهزية ومقوِّمات السلطنة تستوجب تحولًا صريحًا، أساسه المزيد من الانفتاح المدروس، ووضع السلطنة تحت مرأى "رادارات" المستثمرين والسياح وأصحاب المواهب.