القيم العليا

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

حوَّل الإنسان بعقله ومُمارسته وعلمه فطرة الغريزة إلى ملذة وهذا ما تميز به عن الحيوان؛ حيث يأكل مثلًا لإشباع غائلة جوعه فقط، دون تلذذ، ولكن الإنسان يفعل ذلك مع إضافة محسنات ذات قيمةٍ خارجية جمالية على قيمة الطعام الذاتية، وبذلك نجد أن غاية القيمة الجوهرية في ذاتها وغاية القيمة الخارجية وسلية مبررةٌ إلى غيرها.

فجمال الفراشة الملونة قيمة جوهرية ذاتية قد لاتعلم هي عنها شيئًا وتضفي عليها قيمة خارجية لإرهاب المعتدي، وقيمة السيارة خارجية وسلية ونوقن ذلك تمامًا ثم يُضفى عليها قيمة أخرى كالجمال والراحة والرفاهية ونعتقد أنها جوهرية لكنها ليست الأصل، وهذا حديثٌ ملموس ظاهري حول المشخصات لكن ماذا عن المحسوس الباطني حول المجردات، فهل تخضع هي أيضًا إلى المعايير القيمية بنفس المفهوم كالقداسة والعبادة والإحسان والمعروف والشكر والاعتذار؟!

إنها وجدانيات وأخلاقيات مبنية على واقع يتغير ويختلف من ثقافة مجتمع إلى آخر وتزداد وتنقص وتنعدم أحيانًا بحسب قوة المعتقد وضعفه في المجتمع وهي تنضوي تحت الخير وهو قيمة كبرى ثابتةٌ لا تتغير على الدوام وإن تغيرت قواعد السلوك، كما أنَّ الصدق وقول الحق والاعتراف بالخطأ من البديهيات المنطقية المندرجة ضمن قيمة كبرى تعرف بالحق الذي قد يختلف معياره التصنيفي بين الفرد على وجه الخصوص والإنسان عمومًا بنسبةٍ تتباين حسب ثقافة الوعي المشترك والمعتقدات السائدة في المجتمعات شريطة عدم اجتماع النقائض وأن يكون لها قيمة عملية يصادق حكمها على الواقع ويخدمه ويعود عليه بالنفع.

لكل شيءٍ قيمةٌ معنوية ومادية، سواءٌ كان سلوكيا أو فكريا وبإمكاننا وضع معيار لذلك ما بين جلب ما يعود علينا بالخير ودفع ما ينتج عنه من ضرر، فقد تَستحسن بعض المجتمعات قيما معينة بينما تستقبحها مجتمعات أخرى كتجارة الرقيق والتمييز العنصري، وقد يُستملح ما كان ذميمًا في السابق عند انتفاء الضرورة أو تناقضه مع تغير الفكر الإنساني والذي يستوجب التغيير كالآلة الكاتبة وجهاز التلفزيون والتصوير.

عندما نتخلى عن قيمنا الذاتية المتوارثة التي عرفنا بها والمستمدة من شريعتنا الإسلامية الأصيلة حين يتبادر لنا أن الضرورة الآنية توجب علينا تعطيلها ولو مؤقتًا مع سيطرة استيهامنا أننا أغرقنا في التسامح والاحترام واتخذنا مسارًا، حادَ عمَّا اعتادت عليه بعض الشعوب في تعاملها، فأودى بنا ذلك إلى الظهور بمنظر الضعيف اللا مبالي بحقوقة أحيانًا، فإنَّ ذلك الإغراق الفكري ما هو إلا طغوى الاستنكار عند وجوب الإقرار وهذا لم نُربَ ولم ننشأ عليه.

منذ متى كان العُماني قابلًا بهضم حقه وهدره بالمجان دون مقابل؟! لم يقبل بذلك على أرضه ونفسه أبدًا، كما لا يقبله على غيره ولا يقبله غيره عليه، ولنا في تاريخنا القديم والحديث شواهد عظيمة ومشاهد خالدة لا ينكرها الغريب قبل القريب، ونحن على نهجها ومنوالها ماضون، إلا ما حيك من مكرٍ في غرف الظلام وغدرٍ وخديعة وذلك ليس دأبنا ولا شأننا فإن أعددنا له العدة فهو خير وإن جهلناه سنواجهه بما استطعنا في حينه.

يقبل الكبير أحيانًا التنازل عن شيءٍ من حقوقه درءًا لوقوع مفسدة، وهذا ليس بالضعف الذي قد يتخيله البعض بقدر ماهو قوةٌ تُجنب قومًا أو شعبًا مغبة تعاظم الخلاف الذي لا فضائل فيه تذكر ولا تحمد عواقبه ولا ترجى نتائجه؛ وإن كان الانتصار للنفس سلوكٌ تحتمه الفطرة في معظم الأحيان إذا لمس الإنسان شيئا من ظلمٍ وقع عليه لكنه ليس الخيار الأول عند الحكيم بعيد النظر بل وسيفتح أبوابًا من خياراتٍ منتخبة وإن بدت معدومة عند احتدام الخلافات التي يدير رحاها الغاضب أو المستفيد منها وما نتيجة ذلك إلا وغر الصدور وشحن النفوس على أمر كان حسمه مقدورًا عند شرارته الأولى.

هل نلوم أنفسنا في عاطفتنا وتسامحنا، ومنذ متى كانت هذه القيم الأخلاقية الحسنة مستقبحة لنتركها اليوم؟! ومع ذلك وإن أردنا فلن نستطيع لذلك سبيلا لأنها غاية جوهرية في ذاتها وليست وسيلة لغرض منفعة، هاتان قيمتان يفتقر لهما اليوم الكثير من الشعوب والمجتمعات التي طغى عليها الفكر والترف المادي وبات التعصب والتشدد في الرأي والتمسك بالموقف سائدًا ومصطرعًا عليه، ولم تعد تُعر اهتمامًا لما يقال عنها أو ما يحكم عليها وفقدت بذلك قيم الجمال والخير والحق وما أصعب استعادتها بعد فقدها.

صاحبُ الحق لا ينتظر اعتذارًا وإن حدث فلا يشكل معه ذلك فارقًا كبيرا حيث لا تهمه كلمات الثناء بقدر ما يهمه استتباب الإخاء ولا يهمه التكريم أو التتويج على المنصات بقدر ما يهمه احترامه لذاته النابع من ثقته بنفسه، فلا تراجعه خطوة للخلف أراد بها إحسانًا يمس من كرامته ولا تنازله عن حقٍ بسيطٍ أراد به إنعامًا يصيب من عزته، وسيبقى على رسوخ مبدأه حتى مع تسلل بعض الأفكار الجديدة المنادية بالندية والمعاملة بالمثل واسترداد الحق وإن كان مشكوكًا فيه أو ساورته الجدليات بصرف النظر عن أية اعتبارت إنسانية والتي قد تخفى في العمق ولا يراها المتفرج والمشاهد للحدث من السطح.

إنَّ قيمنا العليا تكمن في تسامحنا بافتراض حسن الظن وحلمنا في التماس العذر وتساهلنا في عدم مقابلة الإساءة بمثلها وتجنبنا المَّن بالخير على الغير ونبذنا الأذى بالقول والفعل (ومن عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلامٍ للعبيد).