الإطار العالمي الجديد للتنوع البيولوجي (4-4)

حين تلتقي طموحاتنا الوطنية مع طموحات العالم

د. محمد بن ناصر اليحيائي **

تستلهمُ الخطط والسياسات الوطنية في مجال التنوع البيولوجي بسلطنة عُمان توجهاتها من رؤية "عُمان 2040" وبالتحديد من التوجه الاستراتيجي الذي ينص على "ضمان نظم إيكولوجية فعالة ومتزنة ومرنة لحماية البيئة واستدامة مواردها الطبيعية دعمًا للاقتصاد الوطني"؛ وهو توجه يتساير بشكل كبير مع أهداف الإطار العالمي الجديد. ولذلك وأيضًا بسبب التقارب الزمني لانطلاق الرؤيتين فإن هنالك فرص كبيرة للإلهام والدعم المتبادل. تحقيقنا لأهداف رؤية "عُمان 2040" في هذا المجال يعني أننا نساهم إيجابيًا في حماية ورفاهية عالمنا الكبير.

سلطنة عُمان هي موطن لأنواع كثيرة ونادرة من الكائنات الحية وهناك كائنات جديدة تكتشف بشكل مستمر وخصوصًا تلك المنتمية إلى الكائنات الحية الدقيقة والفطريات الكبيرة. ما نطمح جميعًا إلى تحقيقه هو الحافظ على هذا التنوع الغني والنادر بالسلطنة وجعله قادرًا على الاستجابة للتغيرات بما فيها تغيرات المناخ واستثمار الخدمات (الغذائية والدوائية والسياحية والخدمات الثقافية اللامادية) التي يقدمها هذا التنوع على المدى البعيد. وهذا توجه يتماشى مع الغاية (أ) من الإطار العالمي الذي يسعى إلى استدامة استخدام التنوع البيولوجي.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، علينا أولًا: وقبل كل شيء ضمان إبقاء الأنواع البرية المحلية والمستوطنة في موائلها الطبيعية والتأكد من سلامة النطاقات التي تعيش فيها. وهو هدف رئيسي (الهدف 3) للإطار العالمي للتنوع البيولوجي. وبالتوازي مع ذلك، وكخطة طوارئ ضد التغيرات المفاجئة على الأرض، علينا بذل كل ما نستطيع حتى نحافظ على هذه الأنواع في بنوك جينية محلية صممت بشكل متقن ومتوازٍ مع أفضل الممارسات العالمية. كما علينا أن نختار المواقع الجغرافية لإنشاء هذه البنوك بشكل دقيق حتى تكون بعيدة عن المناطق التي يمكن أن تتأثر بالأنواء المناخية أو حتى حركات الطبقات الأرضية (لا سمح الله). ويشكل بنك سفالبارد الجيني بشمال النرويج لحفظ أنواع البذور النباتية من شتى بقاع الأرض أحد النماذج الرائدة. فهو بمخبأ جليدي تحت الأرض في منطقة مستقرة تكتونيًا وبعيد عن النشاطات البشرية.

ثانيًا: علينا أن نكثف من تسخيرنا للعلم والتكنولوجيا (التي لا يمكن الاستغناء عنهما بأي حال من الأحوال) في مجالات الحفظ والاستثمار المستدام لمواردنا الناتجة عن التنوع البيولوجي؛ فمعرفة الكائنات الحية بالأساس يحتاج إلى علم التوصيف بشقيه المظهري والجيني كما أن دراسة صفات الكائنات الحية وإمكانياتها التي يمكن أن نستفيد منها كغذاء أو دواء أو مستحضر صناعي يحتاج إلى مجموعة واسعة من العلوم والتجهيزات المختبرية الحديثة. هنالك أبحاث علمية في السلطنة نرى نتائجها يشكل ملموس. ولتحقيق أثر أكبر علينا أن ندرك أهمية زيادة التنسيق للجهود الوطنية بين القطاعات المعنية بالتنوع البيولوجي ووضع أولويات واضحة وبالتعاون مع القطاع الصناعي المحلي والدولي أيضًا بما يضمن حقوقنا في أي ابتكار معتمد على مواردنا الوراثية. وهو في الحقيقة أحد أهداف رؤية عُمان 2040 (استخدام مستدام للموارد والثروات الطبيعية واستثمارها بما يكفل تحقيق قيمة مضافة عالية) وكذلك أحد غايات الإطار العالمي للتنوع البيولوجي (الغاية باء: الاستخدام والإدارة المستدامان للتنوع البيولوجي وتقييم مساهمات الطبيعة إلى الناس).

ثالثًا: نحتاج إلى إيلاء الاهتمام الكافي بالمعارف والخبرات التقليدية في مجال التنوع البيولوجي واستخداماته. فهذي المعارف هي أحد الأعمدة الثقافية والتراثية القائمة على التجربة والابتكار. وهي غاية أكدت عليها رؤية "عُمان 2040" في إحدى أولوياتها (المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية) والتي تضمنت أهدافها "الإستثمار المستدام للتراث والثقافة والفنون ليسهم في نمو الاقتصاد الوطني". وهناك الكثير من النماذج على المستوى العالمي لمساهمة المعارف التقليدية للشعوب في إيجاد تطبيقات صناعية حديثة تخدم البشرية. وهذا ما دفع الإطار العالمي للتنوع البيولوجي أن يشير وبشكل مباشر في هدفه الحادي والعشرين إلى "حق المجتمعات المحلية في الاستفادة من معارفها التقليدية ومن مواردها الوراثية إذا تم استخدامها تجاريًا".

ولذلك فهناك حاجة لتقييم هذه المعارف وتوثيقها بشكل علمي فمن الممكن أن تفتح لنا فرصا استثمارية في عالم يبحث عن الإلهام من الخبرات المتراكمة عبر الأجيال. 

رابعًا: وفي عالم مكتظ بالأخبار لا يبدو أن الجميع مدرك بأن كوكبنا يعيش أزمة تنوع بيولوجي، على عكس أزمة تغير المناخ. قد يعزو ذلك إلى أن التغطية الإعلامية المتعلقة بالتنوع البيولوجي كانت أقل حسب بعض الدراسات من تلك الخاصة بتغير المناخ. ربما كانت التغطية الإعلامية للأحداث المتعلقة بتغير المناخ ترتبط بأحداث دراماتيكية تشد الانتباه بشكل واضح كأحداث الأعاصير والفيضانات وتقارير ارتفاع درجات الحرارة القياسية في بعض مناطق العالم. في المقابل فإن فقدان التنوع البيولوجي والموائل الطبيعية للكائنات الحية يحدث بشكل بطيء، لكنة مؤثر. ولذلك نحتاج إلى أن نسخر الأساليب الإعلامية الجذابة وبالكثافة المناسبة لتسليط الضوء على خطورة فقدان التنوع البيولوجي وكيفية قلب الأحداث للمحافظة عليه واستثماره. هنا أيضا تلتقي رؤية عُمان 2040 (الهدف الذي يسعى إلى تحقيق وعي بيئي ملازم للتطبيق الفعال لقواعد الاستهلاك والإنتاج المستدامين) والهدف 21 من الإطار العالمي (تعزيز الاتصالات، وزيادة الوعي، والتثقيف).

وفي النهاية.. علينا أن نعزز من حضورنا وتأثيرنا في المنتديات والبرامج البحثية الدولية التي سيدعمها الإطار العالمي الجديد تحقيقًا لهدفه العشرين؛ فهي مساحات مثالية لكسب المعرفة والإطلاع على تجارب الآخرين ونقل تجاربنا لهم. كما إنها تفتح مجالات للتعاون العلمي والابتكاري مما يعزز من فرص النجاح للجميع. وهذا التعزيز لحضورنا الدولي سيُحقق أحد أهداف رؤية "عُمان 2040" التي تطمح لبناء "كفاءات وطنية ذات قدرات ومهارات ديناميكية منافسة محليًا ودوليًا".

كُلنا نعيش في بيتٍ واحدٍ ومستقبلنا مشترك والتحديات التي نواجهها مشتركة. وبالنظر إلى التشابك المعقد للحياة على الأرض، فإنَّ انهيار التنوع البيولوجي في أيٍ من بقاع الأرض سوف يُلقي بظلاله القاتمة على الجميع، وأن النجاحات على المستويات الوطنية ستسهم في نجاح الجميع وتحقيق الهدف النهائي بحلول 2050 للإطار العالمي للتنوع البيولوجي وهو: "أن يعيش البشر بسلامٍ مع الطبيعة".

** خبير الموارد الوراثية بمركز عُمان للموارد الوراثية الحيوانية والنباتية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة