الوطنية وسمسرة الذمم

 

د. سلطان بن خميس الخروصي

كاتب وباحث

sultankamis@gmail.com

لطالما كان الوطن والوطنية مثار جدال ونقاش مستفيضيْن عبر التاريخ؛ فالوطن باختصار هو مكان يستقر فيه الإنسان ويألفه ويواطن فيه فكره وقلبه ويسعى لتنميته وتطويره، والوطنية بمفهومها البسيط وبعيدًا عن المعلَّقات الفلسفية هي معادلة تتكون من طرفين أساسيين وهما: الحقوق والواجبات يُذعن فيهما المرء بقناعاته الكاملة، ومن يطوي التاريخ ويتجوَّل بين جنباته منذ أن وُضع الإطار الفلسفي للمواطنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفنّيا في الحضارة الإغريقية والرومانية والنَّاس في سجال غير متناهٍ لحيثياته.

وبلغة يسيرة يمكننا أن نختزل ما يراه الكثير من المفكِّرين والمُنظِّرين والفلاسفة أمثال: الفيلسوفين اليوناني سقراط (Socrates)، وأفلاطون (Plato)، والفيلسوف الإنجليزي جورج باركلي (George Berkeley)، والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ((Immanuel Kant، ومواطنه عالم الاقتصاد كارل ماركس (Karl Marx)، والفيلسوف الأمريكي جون ديوي ((John Dewey وغيرهم، أن المواطنة السَّوية تنسجم مع ذوبان الفئوية في عمق المصلحة العامة؛ ويتجسد ذلك بالإخلاص في الأداء ليرى الجميع الإنجاز، ونشر ثقافة الوعي المجتمعي بعيدًا عن ضبابية الموضوعات وقطع مسارات التأويل والأفلام الهوليودية؛ فوعي أي مجتمع بمصالح أمته وإنجازاته وطموحاته ظاهرة صحيَّة تُنمِّي وتُغذِّي قيم المسؤولية لدى كل فرد؛ فتُصان الممتلكات العامة والخاصة، ويُفتخر بالإنجازات المؤسسية والمجتمعية، وهنا يبرز دور الجهات المعنية والنشطاء والمشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي الذين يمتلكون قاعدة جماهيرية عريضة لتعزيز التوعية المجتمعية المسؤولة.

إلّا أن بروز التشكيك في ذمم الناس، والاستماتة في تقزيم إنجازات شُركاء الوطن أكان مسؤولا في الدولة أو ناشطا مؤثرا في الوسط المجتمعي والثقافي، أو حتى استصغار مُنجز وطني قُدَّم للوطن يُمثل ظاهرة غير صحية، وهو مُؤشر خطير يُوحي بغياب الوعي في تعزيز قيم تقدير حب الوطن ومن يجاهد في بنائه وتطويره وتنميته، لا يُمكن أن نُنكر أنَّ تلك المُنجزات قد تطالها جُملة من الأخطاء أو التجاوزات، لكنها لا تُبرِّر التشكيك في ذمم من جدُّوا واجتهدوا لتحقيق هذا الطموح؛ حيث تجد زُمرة من النَّاس لا يملكون في مجالسهم إلا اللَغط والتشكيك ونشر ملفات سمسرة مُواطنيَّة الآخرين دون أن يسأل نفسه ماذا قدم هو لوطنه ومجتمعه؟ وهناك من يستلذُّ انتقاد وطنه ومنجزاته وإبداعاته فيشعر أن هذا السلوك هو الوطنية المطلوبة وهو لا يملك من أدبيات تلك القيم قيد أُنملة، وربما يتسع النطاق ليُشكِّك بتاريخ بلده وتشويه سُمعته وقيمته الحضارية والتاريخية في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وكأنَّه مارتن لوثر في زمانه؛ وهو مُصلح اجتماعي وقف ضد البابوية في القرون الوسطى في أوروبا.

إنَّ الوطن جامعٌ لكل الأطياف والملل والنحل، فلا يحق للأقزام أن تتعملق أمامه وتُشكِّك في وطنية رجالاته ومُنجزاته لأجل الشُّهرة والتكسُّب، فنبي الأمَّة حينما أخرجته قريش من وطنه وهمَّ بالهجرة إلى يثرب التفت إليها وقال: "وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"، فسمسرة ذمم الناس بولائهم ووطنيتهم أيَّاً كانت مواضعهم الاجتماعية والوظيفية هي نبتة سامة تُدخل المجتمعات ".. فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا".