خالد بن سالم الغساني
يعيش قطاع غزة بشكل عام، وشماله على وجه الخصوص، كوارث ومآسي إنسانية غير مسبوقة في التاريخ، تتجاوز حدود التصوّر البشري، وتتكرر بشكل يومي أمام أعين ومسامع العالم أجمع، في ظل صمتٍ مريب من قِبل جميع منظماته ومؤسساته؛ حيث تتشابك الأزمات الصحية والغذائية والبيئية مع الدمار الشامل الناتج عن آلة الحرب الوحشية للكيان الاستيطاني.
ومنذ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، وعلاوةً على القصف البربري وما أحدثه من خسائر بشرية ومادية، فرضت إسرائيل حصارًا شاملًا على القطاع، أدّى إلى نقصٍ كاملٍ في الحاجات الأساسية لاستمرار الحياة، مثل الوقود والغذاء والدواء والمياه النظيفة، والمستلزمات الطبية الضرورية. وقد تسبّب هذا الحصار في انخفاضٍ حادٍّ في توفر الكهرباء؛ مما أثّر على عمل المستشفيات وأهمية الكهرباء لإسعاف عشرات المصابين جرّاء القصف البربري وآلات القتل العشوائية للكيان. وزاد الوضع سوءًا بما يُنذر بكارثة بيئية وصحية تهدد حياة أكثر من مليوني نسمة، نتيجة الأعطاب التي أصابت محطات الصرف الصحي ومحطات تحلية المياه، فتوقفت عن العمل. ففي شمال غزة، حيث تتركز الأزمة بشكل خاص، يواجه السكان ظروفًا مروّعة، مع تقارير عالمية تفيد بمنع دخول المساعدات الإنسانية بشكل شبه كامل؛ الأمر الذي يفاقم من معاناة المدنيين الذين يعيشون تحت وطأة الجوع والعطش والخوف المستمر من القصف العنيف.
وبالعودة إلى تصريحات المنظمات الدولية، وخاصة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ومنظمة الصحة العالمية، تؤكد جميعها أن الوضع الإنساني في غزة قد تجاوز حدود الكارثة؛ ففي شمال القطاع، تم تسجيل رفض أكثر من 100 طلب للوصول إلى المنطقة منذ أكتوبر 2023؛ مما حال دون إيصال المساعدات الحيوية. كما تشير تقارير منظمة أوكسفام إلى أن 12 شاحنة مساعدات فقط تمكنت من توزيع الغذاء والماء في شمال غزة خلال 75 يومًا، فيما منعت السلطات الإسرائيلية دخول 22 شاحنة أخرى.
إن هذا الحصار المُشدّد، الذي يعلمه العالم وترصده منظماته الرقابية والإنسانية دون أي حراك أو إشارة إلى إيقاف هذه البربرية والأعمال الوحشية لدويلة الكيان المحتل، إلى جانب استمرار غاراته الجوية على المناطق المكتظة بالسكان، بما فيها المدارس والمستشفيات التي تحولت إلى ملاجئ للنازحين، قد أدى ويؤدي إلى سقوط آلاف الضحايا، بينهم نسبة كبيرة من الأطفال والنساء. ولعل إشارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إلى أن غزة أصبحت "مقبرة للأطفال"، وتقارير أخرى تفيد بمقتل أكثر من 4000 طفل خلال الشهر الأول من الحرب، كانت كفيلة بأن تحرك من يوقف كل ذلك، ولكن لا حياة لمن تنادي.
دمار هائل لحق بالبنية التحتية في غزة، وتشير التقارير الدولية إلى أن أكثر من 80% من المباني السكنية دُمِّرت؛ مما ترك مئات الآلاف من الفلسطينيين بلا مأوى، يواجهون ظروفًا قاسية في خيام لا توفر لهم أبسط مقومات الحياة. كما إن المستشفيات، التي كانت ملاذًا للجرحى والمرضى، أصبحت أهدافًا مباشرة، وقد وثّقت منظمة الصحة العالمية 178 هجومًا على القطاع الصحي حتى نوفمبر 2023. مستشفيات مثل المستشفى الإندونيسي ومستشفى العودة تعرضت للقصف المتكرر؛ مما أدى إلى توقف خدماتها. أوامر الإخلاء الإسرائيلية بإجلاء 22 مستشفى في شمال غزة، والتي وصفتها منظمة الصحة العالمية بـ"الحكم بالإعدام" على المرضى، تُظهر مدى الوحشية التي يتعرض لها المدنيون. الجراحون في مستشفى الشفاء يعملون بدون مسكنات للألم، وهو ما يعكس حجم المعاناة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.
إن الضمير الإنساني يقف عاجزًا أمام هذه المأساة، رغم تكرار التحذيرات الدولية من تفاقم الوضع. تصريحات المسؤولين الأمميين تحدثت عن مستوى لا يُطاق من المعاناة والوحشية، مشيرين إلى أن القانون الدولي الإنساني يتم خرقه بشكل صارخ. لكن هذه التصريحات، رغم صدقها، تبدو كلمات جوفاء في مواجهة استمرار العمليات العسكرية التي تشمل قصف الملاجئ والمستشفيات وحرمان السكان من الغذاء والماء والدواء. كما تشير تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن الحصار وأوامر الإخلاء القسرية قد ترقى إلى جرائم حرب، مثل استخدام التجويع كسلاح حرب؛ مما يثير تساؤلات حول مسؤولية المجتمع الدولي عن هذا الصمت المريب.
شمال غزة على وجه الخصوص، يعاني من وطأة هذا الحصار بشكل أشد، حيث أصبحت المنطقة، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، "مدينة أشباح" مهددة بالمجاعة. الناس هناك محاصرون، يعيشون في خوف دائم من الموت، بلا طعام أو ماء نظيف، فيما تستمر الغارات الجوية في استهداف المناطق التي أُمروا باللجوء إليها. قصص وأخبار تتوالى وتعكس حجم الكارثة التي يواجهها الأطفال والضعفاء بشكل خاص. ولكن لا حياة لمن تنادي، فإسرائيل فوق القانون ولا أحد يحاسبها أو حتى يتجرأ على إدانتها.
المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تهز الضمير الإنساني دون قدرةٍ على الحراك أو فعل شيء، وتضعنا وتضع العالم أجمع أمام مسؤولية عظيمة وسؤال صارخ وملح: أين هي الإرادة السياسية والأخلاقية الدولية لوقف هذه المأساة؟ وتليها الإجابة السريعة بالتحرك الفوري لإيقاف هذا النزيف الدامي والتدمير الممنهج لشعبٍ يناضل من أجل نيل حقوقه التي كفلها وأقرّ بها القانون الإلهي قبل القانون الإنساني.
إن غياب الاستجابة الدولية الفعّالة يعكس أزمة الضمير الإنساني العالمي، وعجز وضحالة العالم أمام بطش الآلة الاستعمارية الأمريكية والغربية التي توفر المظلة الآمنة لكل هذا العدوان الوحشي الصهيوني، الذي يبدو صغيرًا وغير قادر على مواجهة هذا العدوان الممنهج والمكفول.
وكفالة أيتام غزة ودعم النازحين باتت مسؤولية أخلاقية واجبة تتطلب تحركًا عاجلًا لوقف إطلاق النار وفتح ممرات آمنة للمساعدات؛ فاستمرار هذا الوضع يعني موت كل القيم والمُثل الإنسانية، وتحويل غزة إلى مقبرة لكل تلك القيم والمثل، إلى جانب ضحاياها.
فهل نشهد موت الضمائر والقيم والمُثل البشرية، كما شهدنا ونشهد باستمرار موت منظماتها وجمعياتها ومؤسساتها الحقوقية؟ أم نشهد صحوةً تجمع أحرار وشرفاء العالم ليتحركوا لإنقاذ ما تبقّى من إنسانية في ضمير البشرية، ويقولوا لدويلة الكيان الإسرائيلي وللولايات المتحدة الأمريكية التي تطلق يدي العدوان الصهيوني: كفى، توقّفوا عن القتل، وتحمّلوا مسؤولياتكم الأخلاقية والقانونية، وابدأوا فورًا بالعمل على وقف هذه الكارثة وهذه المآسي التي تحدث كل ساعة أمام مرأى العالم، ويسجلها التاريخ كأبشع الجرائم في تاريخ البشرية؟