للنقد حدود

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

من الأمثال الشائعة والمتداولة "قول النصيحة بجمل"؛ إذ يُحكى أن رجلًا مرَّ بشيخ كبير يُخيم في الصحراء فسأله ماذا تصنع في هذه الصحراء وحيداً، قال الشيخ إني أبيع النصيحة بجمل، وكان مع الرجل قطيع من الماشية والإبل فرأى أنَّه قد ينتفع من نصيحة الشيخ لذلك، أشترى ثلاث نصائح ولم يُدرك معانيها حينها وأعتقد أنه قد اتخذ قرارا خاطئا، وخسر ثلاثة من الإبل مقابل نصائح لم يستوعب معانيها، وفي طريق العودة إلى عائلته تعرَّض الرجل لثلاثة مواقف صعبة كادت تودي بحياته وحياة أحبته وبفضل النصائح الثلاث خرج بأمان.

من الصعب التفريق بين النصحية والنقد؛ فالنقد أحيانًا يحمل في طياته النصيحة، وأحيانًا يكون النقد عبارة عن ذكر العيوب دون طرح الحلول. في كل مرحلة من مراحل حياتنا مررنا بمواقف ناقدة سواء أكنا ناقدين أو منتقدين، قد يكون النقد جارحًا لمشاعرنا، أو مُحرجًا أمام أحبتنا وزملائنا، وبعضه قد ترك أثره فينا وقد تسبب في صدمة نفسية، هزَّ كياننا وكان نقطة تحول في حياتنا وبداية التغيير.

كم من مرة يسألك البعض عن رأيك في أمر ما، ثم يغضبون منك أو يتخذون موقفًا سلبيًا؛ لأنك قد قلت ما لا يريدون، لأنهم لم يكونوا مستعدين للحقيقة وكل ما أرادوه المديح، أو التأكيد على صحة رأيهم.

كم مرة وجدت أناساً لا يمتّون إليك بصلة، يتدخلون بشؤونك ويتصرفون كأوصياء عليك وعلى سلوكك وفكرك من دون وجه حق،ويعتبرون ما يقومون به من باب النصح والتوجيه، حتى وإن كانت تلك النصائح جارحة، وتصل إلى حد التطاول والقذف.

قد يرى البعض في النقد هو نقد للذات يمس الكرامة ويجرحها، والبعض يخشى النقد خوفا على خسارة المكاسب التي تحققت من جراء السكوت والمديح، والبعض يرى في النقد أعباء جديدة وعملا يخرجه من منطقة الأمان، والبعض يتخذ من النقد وسيلة للانتقام والتشفي في الآخرين .

ثقافة النقد ثقافة موجودة في الكثير من المجتمعات، وهي تعلم وتدرس في المؤسسات التعليمية بغرض التقييم والتصحيح. ويشبّه فرانك كلارك النقد بحبات المطر التي تغذي نمو الإنسان، دون أن تؤذي جذوره لماذا لا نحب النقد بكافة أشكاله، حتى بتنا لا نفرق بين نقد المحب وبين نقد من يهدف إلى تدميرنا.

المراجعة والتقييم شكل من أشكال النقد، التي تهدف إلى التطوير وتغيير المسار، لذلك تجد في المؤسسات الكبرى اجتماعات مرتين بالأسبوع لتقييم الأداء والعمل، وإجراء التعديلات المناسبة للمضي قدما بخطط العمل والتطوير.

يقول علم النفس إن الدماغ البشري، يمتلك أساليب وطرقا كثيرة لتفادي سماع الآخرين وهي تعد وسائل دفاعية نفسية للتصدي لأي هجوم أو نقد مما يزيد من ثقتنا بذواتنا، فالإنسان لا شعوريا ينتقي ما يسمعه ومالا يُريد أن يسمعه.

ويؤكد أيضا على أن أغلب الناقدين قد تعرضوا للنقد في طفولتهم، أو التنمر من مُحيطهم، فكان وقع النقد أو النصيحة مؤلماً لأن في سن الطفولة المبكرة لا يميز الطفل بين النصيحة أو الإساءة فيظل الجرح مفتوحا وينعكس في سلوكياته الناقدة للآخرين.

كلنا نكره النقد لأنه يكشف أوجه القصور والخلل، مع أنه الوسيلة الأفضل للإصلاح وأفضل أداة لتصويب المشكلات. كلنا نكره النقد لأن قليلين من لديهم مهارة النقد البناء وفق ضوابط وشروط.

للنقد حدود وأصول وآداب وقبل أن ننتقد الآخرين وسلوكياتهم،علينا أولا أن نقف أمام مرآة النفس ونتأمل بعمق، يقول المفكر الأمريكي على المرء أن يتخذ من ملاحظات الآخرين أساسا يبني عليه بدلا من أن يهدمه، فبعض من النقد يمنحنا فرصة تقييم قراراتنا وتحسين سلوكياتنا وتحيدنا عن المسار غير المناسب.

وكي نضمن استمرار علاقاتنا الحسنة بالآخرين، أيا كانت طبيعة العلاقة التي تجمعنا بهم، فإنه من الضروري مراعاة المنهج الصحيح في تقديم النقد أو النصيحة، والتحلي بالكياسة والوعي فإن الناس أجناس وأمزجة ويختلفون في مستويات الوعي والفهم.

نشرت إحدى مطبوعات جامعة هارفارد نتائج لاستطلاع للرأي عبر الإنترنت حول أصعب التعليقات التي تلقاها المشاركون بالاستطلاع، فكانت التعليقات القاسية التي تطالب بالاستقالة أو المغادرة أو التي تحوي اتهامات كالفشل أو الجبن أو التلاعب أو الأنانية من أكثر التعليقات حدّةً وأثرًا.

ووجدت الدراسة أن الكثير من المشاركين ظلت التعليقات القاسية تطاردهم لعقود زمنية كبيرة وأثّرت فيهم حتى الذين قد تلقوا تعليقات أقل حدة كانوا يشعرون بالضيق والإنزعاج.

يقال إن اليقظة الذهنية تنشط منطقة الراحة في جهازنا العصبي، وتساعدنا على ضبط عواطفنا وهي تساعدنا على مواجهة الانتقاد والاستفادة من الملاحظات الموجودة بالنقد والتعلم منها .

وعلى مدار العصور وفي كل زمن يظهر المصلحون والناصحون والناقدون وهذا يعكس أن البشر غير معصومين من الخطأ، وأنَّ النقد أمرٌ بشريٌ. وبين النقد الإيجابي والسلبي خيط رفيع جدًا، ولا بد من قبول النقد والنصيحة من المحبين الواثقين من محبتهم بروح إيجابية نقيم فيها ذواتنا كفترة مراجعة، ومن الحاقد أيضًا الذي يتمنى سقوطنا والتشفي من أخطائنا بالوقوف بروية والإمعان بذهن حاضر لتقييم الموقف والمضي قدما إلى حاضر أجمل ونجاح جديد ولا نتخذ من النقد وسيلة لإثباطنا عن النجاح والتطوير.

لولا النقد البناء لم تتطور الحضارات والأمم، لولا الأخطاء لما تعلمنا كيف نُغير مواقفنا، فقبولنا للنقد البنّاء كأفراد أو مؤسسات حالة صحية تنم عن إداركنا العميق بأنَّ الأخطاء تحدث عندما نعمل أو نفكر.. البدايات الجديدة لن تخلو من النقد لكن لن يحيدنا عن الطريق الصحيح.

وكل عام وأنتم مجدّدون ومتجدّدون.