وهل تظن يدًا في الأرض تُطفِئني؟

 

د. مجدي العفيفي

(1)

تتوقف عقارب الزمن عن اللهاث في هذه اللحظات السنوية، ربما أعثر على النور الذي يتوهج في المسافات الغامضة بين «التخلي» و«التحلي» و«التجلي» فيشعل مصابيح القلب، ويتناغم جدل الروح بـ«التجريد» و«التفريد» و«التوحيد» ليعطي أكثر مما يأخذ.. بلغة الحياة، وتشتد الأوتار.. بلغة الفن، ويكبح القلم جماحه.. بلغة الفروسية، ويخفض الجسد جناحه لتجليات الروح.. بلغة التصوف، وتتنازعه ثقافة الأسئلة.. بلغة الفلسفة، ويبرق العنوان الرئيسي.. بلغة الصحافة.

(2)

يصل القلب إلى لحظات.. يتعادل فيها التبر والتراب، إذ يدرك قدرته الفؤادية بما لديه من جذور شجرة أصلها ثابت، وفروعها موصولة بما وراء الأشياء، جذور ليست في الهواء، وبما يتمتع به من قوة قلبية، تتوهج بالتحدي الذاتي والموضوعي: «رفعتُ لله قنديلي فأوقدهُ.. فهل تظن يدًا في الأرض تُطفِئني..؟» وفقاً لأستاذنا الأكبر «جلال الدين الرومي» الذي لا يزال حيا في خلايا الروح، ونابضا في حنايا الوجد، وراكضا في ثنايا الوجدان.

(2)

لحظات.. حين تتمدد في قلبك تجعل زمنك متكسرا، الزمن المتكسر يتراوح بين عدة تشكيلات، فهو زمن إنساني، من حيث امتلائه بالتجارب والانفعالات والحالات الشعورية، ثم هو زمن فني تترتب عليه عناصر الإقناع والاستمرارية، وهو أيضًا زمن ذاتي يجعلك تعي التغيير في طبيعتك وفى الطبيعة من حولها، وهو كذلك زمن داخلي ناتج عن حركتك فيه ووعيها له باعتبار أن الزمن خيط مسيطر على كل الأنشطة والأفكار، حالة من حالات الوجود الموضوعي لخطاب ذاتك في تشكله.

(4)

تمضي بنا الأيام، وتتعاقب أوراق العمر، وينظر المرء منَّا إلى ما قدمت يداه في مراحل حياته، فإذا هو في مرحلة العشرينيات، يتفتح على الدنيا حوله فيتشكل وعيه، وفي عقد الثلاثينيات، يتوهج بالعطاء حين تتسع استدارة الوعي، حتى إذا بلغ أربعين سنة، يطلب من ربه أن يوزعه أن يشكره على نعمه وآلائه، لتتدلى شمس العمر في الخمسينيات قرصا يتماوج لونه ما بين الإحمرار والإصفرار، حيث يسدل الهدوء ستائره إلا قليلا، ليفسح مساحة للتأمل، فينتبه الواحد منِّا، يمد عينيه يقلب أوراق العمر.

(5)

لحظات يتحرر فيها سردك لذاتك من ضغط الترتيب الزمني، وأنت تقرأ كتابك السنوي، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا في دنياك قبل آخرتك؛ إذ يرتبط معنى الزمن بتنمية لحظة الانعطافة الأهم بين عامين، لإثرائها وجعلها متداخلة بنظامها استرجاعا واستباقا، وبحركاتها تسريعا وإبطاء، اعتمادا على العلاقات الرئيسية الأربع التي تحكم إيقاع نص الواحد منِّا مع ذاتك ومع الآخرين وتحدد درجات السرعة الزمنية.

قد يتوقف أمام ورقة ولا تستوقفه أخرى، وقد يمر على بعضها مر السحاب. وربما يتمهل ويمهل ذاته أمام عدة أوراق، تجعله يعيش بعض المراحل مرة أخرى فيعيد كتابة صفحات حياته بخبرة جديدة، ورؤية تحدق في الزمن، ورؤيا تحلق في فضاء النفس، ووسيلة يلملم بها ذاته التي تبعثرت على محطات الحياة، ولابد أن تتبعثر، فهي التي تتسم بالحركة أكثر من السكون، والسعي نحو المجهول ليصبح في عالم المعلوم، وهذه سنة الحياة، وقانون من قوانين الوجود، الانتقال والتحول التدريجي من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وتبارك الله الذي له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

(6)

في ظلال الأوراق وتحت شمس العمر، أعيش مرحلة يغالبها التأمل، ويغلب عليها التحديق في النفس، في الكون، في العمر، في الحياة، في الإنسان، في «الماوراء» وما وراء الأشياء طريق اخترته، أو بالأحري، مشيت فيه منذ أن تفتح القلب علي الحياة، وأشرق الوعي في النفس، وبث الله سبحانه وتعالى في ذاتي روح تجميع المختلفات في منظومة فهم أبعاد الحياة، التي تستحق أن تعاش إذا أدرك الإنسان خفاياها، واستطاع أن يتحرك بعلمه وإيمانه بين ثناياها، وأجرى «اتصالات» بينه وبين محطاتها، وتمكن من أن يضبط موجات نفسه علي موجاتها، أو بالأحرى يسعى إلى ذلك، ويحاول والحياة محاولة!

أتصفح أوراق العمر، ورقة تلتئم بأخوتها، وورقة جديدة تتهيأ لاستقبال سطور جديدة، وفي آفاق الكون.. لا بُد من الطلاقة والإنطلاقة، وفي أعماق النفس، لا بُد من الإختراق حتي حد الاحتراق، وعلى صهوات الكلمة.. يتألق الرقص في السلاسل، وهل الكلمة الحرة إلا رقص في السلاسل؟!

(7)

يمر العام بعد العام، والزمن لا يقاس بالأيام والسنين بقدر ما يقاس بغزارة الشعور من عدمه، كأن آلة الزمن لم تعد هي فقط، المقياس لعصر كل شيء فيه ينسى بعد حين، عصر ثوابته أكثر من متغيراته، وما بين الثابت والمتغير.. تتحول الأيام، وتتلون الآلام، وتتباعد المسافة بين التصورات والتصديقات، وتلك الأيام تتداول بين الناس.

يمر العام بعد العام، فيه يغاث القلب بومضة من ومضات النور، الذي لا يعرف الانطفاء، نور على نور، والنور هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا الكون العظيم.

يمر العام بعد العام، موجات تتلاحق، موج يغشاه موج، والبحر لجي، وظلم وإظلام وظلمات بعضها فوق بعض، ووهج وأضواء ونفحات ولفحات، والعمر يجري، أو نحن الذين نسرع الخطى و«من كتبت عليه خطى مشاها».

يمر العام بعد العام بعد العام، ومن يدرك حكمة الأيام..!

والقلب أمين، لا يمل ولا يميل.

يأرق ويقر ويقرأ « كتاب التدوين» و«كتاب التكوين».