رؤى للأعضاء الجدد بالمجالس البلدية

 

د. عبدالله باحجاج

سنُقدم في هذا المقال مجموعة رؤى استرشادية للأعضاء الجُدُد المرتقبين في المجالس البلدية للفترة الثالثة، وذلك بعد ليلة تنافسية استُخدم فيها الاقتراع الإلكتروني عبر تطبيق "أنتخبُ" الرقمي لأول مرة، ولا يمكننا في هذا المقال الحكم على التجربة الأولى للاقتراع عبر التطبيق الإلكتروني، وذلك لضيق الوقت بين كتابته وانتهاء عملية الاقتراع إلكترونيًا، وسيكون التقييم في مقال لاحق.

ومِثل هذا التقييم لابُدَّ منه؛ لأنه سيضعنا أمام الخطوة التالية، من حيث الاستمرار فيه أم العودة للانتخابات الاعتيادية، كما هو متعارف عليه في كل الديمقراطيات، ولو كان هناك توجهات في الاستمرارية فيه وتعميمه، فينبغي عدم الاستفراد في القرار، بمعنى إشباع النقاشات فيه مع كل الشركاء، فهناك وجهات نظر ينبغي الاعتداد بها.

الأهم الآن، لدينا مجالس بلدية مُنتخبة في كل محافظة لمرحلة محلية ووطنية بالغة الأهمية، وتُحتِّم التكاتف والعمل الجماعي وفق حاكمية آخر خطاب لعاهل البلاد- حفظه الله- في لقاءين مع رئيس وأعضاء مكتبي كل من مجلسي الدولة والشورى، كلا على حدة، ونسترجع من هذا الخطاب فقرتين تشكلان مرجعية لكل عضو منتخب، وفي الوقت نفسه، تعتبران حُجتين يمكن أن يُحاجج بهما كل عضو بلدي في دفاعه عن المصلحة العامة، وتشكلان كذلك أداتين لتقوية صلاحيات المجالس البلدية الاستشارية، وهذه التقوية نجدها كذلك ضمن الصياغة التشريعية للإصلاحات، وهي غائبة عن فهم الكثير من النخب، الذين لم يروا في الصلاحيات سوى مُفردات تتصدر الصلاحيات، وتُعلي من شأن الطابع الاستشاري للصلاحيات، كما سيتجلى لاحقًا.

هاتان الفقرتان هما دعوة جلالته مجلسي الدولة والشورى إلى "إعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار" والأخرى "أهمية تكامل مهام الشورى والمجالس البلدية تجنبًا للازدواجية". وفي هاتين الفقرتين، مُوجِّهات ومُحدِّداتٍ للعمل الوطني الحكومي والعمومي والخاص والمستقل. والذي يهمنا هنا العمل البلدي من ناحيتين؛ الأولى: دورها في تقوية الطابع الاستشاري للصلاحيات، والثانية: في تكامل العمل البلدي مع العمل الشورويّ، وهذه هي طبيعة الهندسة السياسية المتكاملة القائمة على الشراكة بين كل مكونات الدولة العُمانية.

وقبل الانتخابات البلدية، غرق الكثير من النخب في سلبية المفردات التي تؤطر صلاحيات المجالس البلدية، مثل: "اقتراح، توصية، إبداء الرأي"، ووصل بالبعض منهم إلى المطالبة بالمقاطعة السياسية للانتخابات البلدية. ومثل هذه الآراء السلبية تستوعبها العملية الديمقراطية، لكنَّها في الوقت نفسه تُعبِّر عن فكرِ ووعيِ أصحابها، فعوضًا عن البحث عن مكامن القوة في الصلاحيات، وكذلك تقاطعاتها المتعلقة بها بصورة مباشرة وغير مباشرة، ويوجهوا بها النخب البلدية المقبلة؛ قادهم فكرهم ووعيهم إلى تعميق السلبية في بنية المفردات، ومن ثم نشرها عشية الانتخابات، وهذا نعتبره خروجًا عن دور النخب في صناعة التفاعلات الإيجابية من رحم نقاط الضعف أو التوجيه نحو تقويتها، أو البحث لها عن تكييفات من صُلبها لتغليب نقاط القوة، التي ستكون بدورها كفيلة بإحداث التطورات في مسيرة الشورى المُلزمة، التي هي الطموح المُجمَع عليه.

لكنَّ الوصولَ إلى الشورى المُلزمة أو التشاركية الملتزمة، هل يكون بالممارسة أم بالمقاطعة؟ نحن هنا لا نختلف على أن تأطير الصلاحيات بتلكُم المفردات الاستشارية في أغراضها ومهامها، تأتي دون الطموح الاجتماعي، إلّا أننا نختلف في جعلها سببًا للسلبية، وتحُول دون إعمال الفكر التطبيقي في إنضاجها بالممارسة، واستنفاد أغراضها. ومن هنا يمكن القول إنه بقدرِ ما يغلب على الصلاحيات صبغة الاستشارية الظاهرة، إلّا أنه في سياقها- أي الصلاحية-ما يقوِّي طبعها الاستشاري، ففيها "دِينامِيَّة" تشريعية حاكمة للإنجاز، والدينامية تعني القوة أو الطاقة. وهنا سنُدلل على ذلك بالكثير من الأمثلة، ليس لدواعي الرد، وإنما لأننا نعتبرها فرصةً توجيهيةً للنخب البلدية الجديدة، ومن خلالها سيتضح لنا أن رِهانات الفاعلين المحليين المُنتَخَبِين تكمن الآن في مسألتين جوهريتين هما:

أولًا: تقديم المرئيات والدراسات (توصيات- اقتراحات) التي تعلي من شأن المصلحة العامة من نطاق الحيز الترابي لكل مُحافظة في إطار منظورها الوطني، ولديها أدوات للنفاذ.

ثانيًا: التركيز على الديناميات في الصلاحيات الاستشارية، ولديها كذلك أدوات للنفاذ. وهنا لنأخذ نموذجًا توضيحيًا لبعض الصلاحيات كما وردت في المادة (21) من قانون المجالس البلدية:

الصلاحية الأولى: "إبداء الرأي في وسائل استثمار موارد المحافظة من أجل تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين"، فماذا سنخرج منها من نقاط قوة للمجالس البلدية رغم طابعها الاستشاري؟ هذا التساؤل موجَّهٌ للأعضاء المُنتَخَبِين بالمجالس البلدية. صحيحٌ أنه يؤخذ على الفقرة هنا، مفردة "إبداء الرأي"؛ أي أن المجلس البلدي لا يمكن أن يكون هنا شريكًا على قدم المساواة في التفكير في وسائل استثمار موارد المحافظات، وإنما دوره تقديم الرأي فقط. لكن، إذا لم يأخذ الشريك الحكومي بمرئيات الأعضاء المنتخبين الموضوعية، فإنَّ هذه الصلاحية تمنحهم أداة رقابية فعّالة، كيف؟

الكيفية نجدُها في تقييد صلاحية الاستثمارات البلدية بتحقيق هدفين استراتيجيين هما: تحقيق التنمية المستدامة، وكذلك صناعة فرص عمل. وهنا يثور الدور الرقابي للمُنتَخَبِين من سياقات هذه الصلاحية؛ حيث ستكون حجتهم مسموعة وقوية داخل المجالس البلدية أو خارجها، وأية مشاريع لا تحقق التنمية المستدامة، ولا تصنع فرص عمل مُعتبرة للمواطنين، يحقُ للأعضاء المُنتَخَبِين الاعتراض عليها بحجة منطوق الصلاحية سالفة الذكر، وبحجيّة كذلك المنطوق السامي "إعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار".

كما تتوفر لهذا الاعتراض الآن آلية يُعتد بها، وهي أن المجالس البلدية يرأسها المحافظ، وهذه دينامية ناجعة في حد ذاتها، فكل محافظ الآن بحكم قانوني المحافظات والمجالس البلدية مسؤول عن التنمية الإقليمية، ونجاحه أو فشله سيكون داخل هذه المنطقة، وعندما يُحاجِج الأعضاء بمنطق إعلاء المصلحة العامة، وقصورها في المشاريع الاستثمارية مثلًا، فلن يكون أمام المحافظ سوى الاستجابة لقوة منطق "الإعلاء"، وهذه دينامية متاحة الآن حتى تُنتج الممارسات، الضغوطَ لدواعي إلزامية الشراكة مع المجالس البلدية. ودون هذه الممارسات الواعية لن تأتي المطالبة بالشراكة الملزمة من رحم المقاطعة أو المطالبات المجردة في مجتمع يشهد اختلافًا- وليس خلافًا- في الآراء وإغراءات الأصوات.

الصلاحية الثانية: "إبداء الرأي بشأن فرض الرسوم البلدية أو تعديلها أو إلغائها، وطرق تحصيلها". عندما يكون رأي الشريك المُنتَخَب في المجالس البلدية قويًا بالحجج الاجتماعية والاقتصادية، سيكون مؤثرًا في القرار البلدي، ولن يتم الإصرار على فرض رسوم لها انعكاسات اجتماعية أو تؤثر على العمليات الاقتصادية والتجارية في كل مُحافظة.

الصلاحية الثالثة: "إبداء الرأي بشأن أداء فروع الوحدات الحكومية الخدمية في المحافظة". هذه المادة تُعلي من شأن الدور الرقابي للمجالس البلدية على الأداء الحكومي في المحافظات، وفي هذه الصلاحية يكتسب إبداء الرأي قوةً نافذةً إذا ما اقترن بملاحظات ميدانية على سلبيات أداء فروع المركزية في المحافظات، أو إذا لم يقترن الأداء بالسرعة والماهيات التي تتطلبها النهضة المتجددة.

هذه المرئيات نقدمها للأعضاء الجُدُد في المجالس البلدية، ونقول لهم إن النتائج ستكون محكومة في قراءتكم لأوجه القوة والضعف للصلاحيات، وأداؤكم التشاركي سيقوي الضعف، وكل محافظة في بلادنا تترقب نتائج أدائكم، وحاكميته اعتبار "إعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار" ولا مجاملة فيها؛ لأنَّ بلادنا تمر بصيرورات استثنائية.