"قد بدت البغضاء"

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

عندما بدأت حركات الاستعمار (الاستخراب) الغربي المُنظم للعالم الإسلامي قبل أكثر من قرنين ونصف من الزمان بعد فشلهم في حملاتهم الصليبية التي أشعل شرارتها بطرس الناسك في فرنسا تحت شعار الحروب المُقدسة والذي تكشف لهم من خلالها ماتملكه الشعوب الإسلامية من ثرواتٍ كبيرةٍ وإرث ثقافيٍ عظيم، سال لعاب المستعمر الغربي لامتلاكها كلها بشريعة الغاب وقانون وضع اليد وليس جزء منها أو حتى مشاركتها، فجندوا جيوشهم الحديثة المشحونة نفسيا بعقيدة القتل للاستيلاء بلا رحمة ولا هوادة على كل ما يمتلكه العرب في المشرق والمغرب الإسلامي، فكانت تلكم الحروبُ الجائرة الظالمة ذات تصنيفٍ مزدوج أولهما انتقامًا لخسارتهم القديمة في الحملات الصليبية وبدا ذلك واضحًا على الجنرال الفرنسي هنري جورو ذي اليد المبتورة عندما ركل بقدمه قبر صلاح الدين الأيوبي بعد معركة ميسلون وقال: ها قد عُدنا؛ وثانيهما نهب وامتصاص خيرات الدول المحتَلة واستباحة ما فيها دون اعتبارٍ لكل ما تتفق عليه الأخلاقيات الإنسانية للحروب وما بعدها.

كان رجال الدين والكنيسة هم اللاعب المحوري سابقًا في شن الغزوات على بلاد المسلمين وهم المتحكمون بالقرار السياسي، فيباركون الملوك الذين يتفقون معهم ومن لايقبل يوقع نفسه تحت طائلة الحرمان الكنسي ولهذا الحرمان تأثيرٌ رهيبٌ ومدمر على الملوك والأباطرة ونستطيع أن نقرب هذا المعنى إلى مايُعرف بسحب الثقة وفرض الحظر في مفهوم اليوم؛ ولكن الاستعمار في التاريخ الحديث بعد تهميش دور الكنيسة ورجال الدين وإزاحتهما عن المشهد السياسي والعلمي اتخذ مسارًا آخر على الصعيد الاقتصادي والعسكري وانتقل إلى مرحلة نهب الثروات مع التأكيد أن كلا المرحلتين اشتركتا في شعوريَّن دفينين يحملهما معه المستعمر أينما حل وهما: حقد خسارته في الحروب الصليبية بصفةٍ خاصة والحقد على الإسلام والمسلمين بصفةٍ عامة، ولذلك نجد أن الحقد الثاني ما زال مُستمرًا إلى وقتنا الحاضر ويظهر جليًا في بعض خطابات سادتهم وكبرائهم من كارهي الأديان من العلمانيين والمتعلمنين ومن سار على نهجهم من المستشرقين والملحدين.

لقد توسلت المفهوم السابق بشكلٍ مختصر جدًا لأُقعِّد الأساس الذي بنى عليه الغرب المستعمر ثقافته وثقافة شعوبه المتشرنقة في الأفكار الخاطئة منذ ذلك الزمن وإلى اليوم على أرومة التعالي والكبر الذي مال بكفة الوسطية الإنسانية ميلًا كبيرًا إلى أن أوقعهم في وهم الاستعلاء والاحتكام لأنفسهم بأحقية الكلمة العليا دون غيرهم وفرضها كرهًا على من هم دونهم كما يعتقدون، وبما أن مُعظم الشعوب الغربية تعيش في ضلالة ذلك المعتقد ولكن، قد يعلم القلة منهم أن هناك حلقةٍ مفقودةٍ في تأكيد تقييمهم للشعوب العربية والإسلامية بشكل نزيه، إلا أن فقاعة التضليل الإعلامي أسمك من إمكانية اختراقها، ونلاحظ أن من اختبر منهم بنفسه تجربة معايشة الواقع عمليًا وجد اختلافًا تامًا بين مارأى وسمع وبين مارآه وسمعه في تجربته.

لقد نجح الغربُ بشقيه إلى حدٍ بعيدٍ في تقسيم الدول وصناعة الحدود وهو نجاح سياسي نسبي في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ على غرار ملوك الطوائف والدول المندثرة للسلاجقة والأيوبيين والعثمانيين ولكن ما تلبث الروابط الإسلامية أن تعود لتلتئم وتجمع ماتفرق، ولذلك اعتقد الغرب أن الممارسة المهلهلة للآلة الإعلامية في تفرقة الشعوب العربية خلال المئة عامٍ الماضية قد حققت النجاح المطلوب كما يبدو لهم ظاهريًا وخصوصًا بعد الضغط المكثف الذي عمق طغيان تلك الآلة الجبارة بعد أحداث "11 سبتمبر" المشكوك في دوافعها.

ساهم إعجابهم بنجاح عدم اتفاق الحكومات العربية والإسلامية على وحدةٍ كاملة في وهم إسقاط ذلك الإعجاب على المستوى المعنوي للشعوب ليفاجئ الكثير من الغربيين وبحسب ماظهر لهم إعلاميًا خلال مونديال كأس العالم أن الأمة العربية والإسلامية لازالت وحدةً متماسكة بالمطلق وبشكل يدعو لإعادة التفكير والنسبة الوهمية التي بنوها كانت مجرد سراب واهٍ هم أول من وقع في حبائل تصديقه والنسبي لا يُدرك المطلق.

أما نحن فلم نُفاجَأ ولم نستغرب شيئًا فوحدة الشعوب العربية والإسلامية ليست بالأمر المحدث علينا ولا هو من غريب الأمور؛ بل هم الفرقاء؛ حيث لا تجمعهم إلا روابط المصالح وعبادة العلم وتقديس المال ولغة المادة "وتحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى" بينما المسلمون أمة واحدة، وكيف لا وربهم واحد ورسولهم واحد وكتابهم واحد ولغتهم واحدة، فكيف لها أن تتفرق وإن بدت كراهة ذلك من بعض الأفواه؟!

لم تجد أفكار التغريب ومحاولات فصل الحياة عن الدِين حتى الآن ثغراتٍ تتخذ من خلالها سيادةً حقيقية وإن كانت قد فعلت في ترسيخ ثقافة الرأس مالية وبعض الشؤون المظهرية ومحاولات مُغلفة بالحريات والممارسات ولكن ليس العقدية، ومع ذلك ينبري لها رجال أصحاء عقليًا ونفسيًا وأشداء أولو بأسٍ شديد في كل العصور لسد تلك الحركات المدخَلة وتقويم المسار إن إعوج، وسيبقى الإسلام هو الطود الحصين الذي يؤلف قلوب هذه الأمة الوسط في وجه محاولات الاستعمار (الاستخراب) الغربي الثقافي الجديد.