الفساد.. معول هدم واستنزاف للأوطان

جهود ملموسة لمحاربة الفاسدين واستغلال النفوذ.. وعقوبات صارمة لتحقيق العدالة

◄ 580 مليون ريال إجمالي مبالغ الاسترداد والتحصيل والوفورات خلال 5 سنوات

الشيدي: بعض الإجراءات تحتاج إلى إعادة صياغة لزيادة صلاحيات "الرقابة"

◄ المنذري: محاربة الفساد تحتاج إلى تطبيق الشفافية في المؤسسات الحكومية

المعولي: استغلال النفوذ الوظيفي يزرع الشعور بالظلم في نفوس عموم المجتمع

◄ المنذري: يتم التلاعب بالقوانين من خلال الثغرات الموجودة فيها

◄ اليحيائية: المواطن يعتبر عاملا أساسيا في الرقابة وتسهيل الوصول إلى الفاسدين

الرؤية- سارة العبرية

تبذل مؤسسات الدولة جهودا ملموسة لمحاربة الفساد بمختلف أشكاله وفرض الرقابة الصارمة لضمان استمرارية مسيرة النهضة المباركة، بناءً على التوجيهات السامية بإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل، وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه وتبسيط الإجراءات، وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة، لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع رؤيتنا وأهدافها.

ويعزز هذه المساعي انضمام سلطنة عمان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمحافحة الفساد عام 2013، ليتولى جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة مهمة هيئة مكافحة ومنع الفساد ومتابعة وتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

وقد أكد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام للسلطنة، أن المال العام ليس للإنسان أن يتصرف فيه وفق هواه، لأنه أمانةٌ في أيدي الجميع، وللجميع حق فيه من الصغير إلى الكبير.

وأسفرت جهود الادعاء العام بالتنسق مع جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة عن رصد 107 جرائم متعلقة بالمساس بالمال العام، من بينها 33 جريمة تتعلق باستغلال المسؤول الحكومي لنفوذه لتحقيق منفعة له أو لغيره، و26 قضية لجريمة استعمال الوظيفة لجلب منفعة و120 لجلب المنفعة للغير و9 قضايا لجريمة الإخلال بالقيام بالواجبات عن قصد.

ويوضح سعود بن صالح المعولي، محامي بالمحكمة العُليا ورئيس ادعاء سابق، أن الفساد ظاهرة وآفة عالمية أهلكت واستنزفت طاقات وموارد الدول، لأنَّ ممارسات استغلال النفوذ الوظيفي على سبيل المثال للتربح وخدمة من يقومون بالدفع بغير وجه حق، تؤدي إلى نهب مقدرات الشعوب لصالح بعض الأشخاص بدلا من تسخير الخدمات لعموم المجتمع وبناء الوطن، مبيناً أن هذه الممارسات تمثل عقبة في مسار التنمية، وتزرع شعورا بالظلم والتحيز في نفوس عموم الأفراد وتُنفر المستثمر الأجنبي الذي يبحث عن بيئة أعمال آمنة ومرنة تحفظ له أمواله وتعينه على تنميتها دون مُنغصات أو مساومات غير شرعية. ويقول: "كل هذه الانعكاسات السلبية والأضرار الوخيمة التي يُخلِّفها الفساد، وغيرها الكثير دفعت بالمجتمع الدولي لاتخاذ موقف حازم والسعي لتوحيد الجهود لمكافحة هذه الظاهرة المُتجددة وتجفيف منابعها".

ويذكر أنَّ من أبرز أشكال الفساد التي جرّمها قانون الجزاء هي اختلاس المال العام والإضرار به والرشوة واستغلال الوظيفة بمختلف أشكاله، والإخلال بأية وسيلة غير مشروعة بحرية أو سلامة مناقصة أو مزايدة، لافتاً إلى أن المنظومة التشريعية الحالية تفي بالغرض في الوقت الراهن من حيث التجريم، مع ضرورة مراجعتها بشكل دوري لاستيعاب أي أشكال جديدة للفساد وتجريمها أولاً بأول.

ويشير أحمد بن سيف الشيدي رجل أعمال ومتخصص في القانون العام، إلى أن أمر مكافحة الفساد في هذه الأيام لم يعد يتعلق بدولة معينة وإنما قد يمتد إلى دول مشتركة في غسيل الأموال بطرق غير مشروعة، مؤكدا أن الاتفاقيات المشتركة بين الدول تساهم في الحد من هذه الممارسات وتحقق النزاهة، مثل الاتفاقيات بين عمان والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال.

ويقول إن بعض الإجراءات المتبعة في مكافحة الفساد تحتاج إلى إعادة صياغة لزيادة صلاحيات جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، حتى يقوم بدور أكبر في محاربة الفساد واسترداد حقوق الدولة، وسن تشريعات تتواكب مع العصر الحالي بعدما تطورت جرائم الفساد واتخذت أشكالا متعددة، مضيفا: "نحن نعاني من عدم تطبيق الحوكمة في المؤسسات الحكومية، ويتم تطبيق الحوكمة في جهاز الاستثمار فقط".

ويوضح مهنا بن صالح المنذري مدير عام ومحامي بالمحكمة العليا، أن القانون العُماني يعتبر الفساد بشتى أنواعه جريمة تستلزم العقاب، مؤكدا أن مواجهة الجرائم المرتبطة بالفساد تحتاج إلى تطبيق الشفافية في المؤسسات الحكومية، وأن تكون الإجراءات واضحة ومرنة، بالإضافة إلى استبدال التعامل الفردي بالنظام الإلكتروني.

ويبيّن أن قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح صادر بالمرسوم السلطاني رقم (112 /2011) ويتضمن بنودا واضحة وملائمة، إلا أنه في بعض الأحيان يتم التلاعب بالقوانين من خلال الثغرات الموجودة فيها.

وقال ناصر بن محمد الحوسني المستشار بجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة- خلال مقابلة سابقة مع تلفزيون سلطنة عُمان في فبراير 2022- إنه استنادًا إلى تقرير الخطة الخمسية التاسعة، فإنَّ إجمالي مبالغ الاسترداد والتحصيل والوفورات بلغ نحو 580 مليون ريال عماني، كما كشفت مراجعات الأعمال المالية الإدارية أن هناك مبالغ واجبة الاستحقاق للخزانة العامة للدولة؛ كالضرائب والرسوم والغرامات، مضيفًا أن هناك مبالغ صُرفت بالزيادة لمقاولين بأكثر من المستحق أو صرفت دون وجه حق؛ وأن الجهاز دائمًا ينبه الجهات المشمولة برقابة الجهاز بضرورة الاسترداد، ويتابع الجهاز استرداد هذه المبالغ، فضلا عن العمل مع تلك الجهات لمنع تكرار هكذا تصرفات، واتخاذ اللازم في شأن أي تقصير من أي طرف ترتب عليه ضرر بالمال العام.

وأشار الحوسني إلى أنه يتم التعامل مع 207  قضايا في ظل التعاون المستمر بين الجهاز والادعاء العام لاستكمال الإجراءات القانونية والتحقيق فيها وإحالتها إلى القضاء، موضحًا أنَّ مسألة جمع الاستدلالات ليست سهلة وتحتاج إلى مزيدٍ من الوقت والجهد لاستكمال الأركان المادية للشبهات قبل إحالتها إلى الادعاء العام.

وأكد الحوسني أن سلطنة عُمان ممثلة في جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، تسير بكل ثقة لتعزيز قيم النزاهة ومكافحة الفساد، بما يجسد الرؤية السامية لجلالةِ السُّلطان المُعظم- حفظه الله ورعاه- نحو التطبيق السليم للقوانين النافذة في البلاد تحقيقًا لمبادئ العدل والإنصاف للسير بالبلاد نحو آفاق أرحب من النمو والازدهار، لافتًا إلى الدور المحوري لأفراد المجتمع باعتبارهم شركاءً أساسيين في حماية المال العام، ومن منطلق الشعور بالمسؤولية والانتماء لهذا الوطن العزيز وحرص المواطنين على الحفاظ على مقدرات الوطن ومنجزاته، ووعيهم بأهمية محاربة الفساد بمختلف أشكاله وصوره.

وترى أمل بنت خلفان اليحيائية محامية استئناف وصاحبة مكتب أمل اليحيائية محامون ومستشارون في القانون، أن الفساد المالي والإداري من أهم عوامل تقويض عجلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول، ومن أشد وأخطر معاول هدم الأمم والحضارات؛ موضحة أن سلطنة عمان أولت اهتماما بالغا بذلك الملف الشائك من خلال انتهاج سياسيات وإجراءات صارمة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة.

وتلفت إلى أن القانون أناط بجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة مهمة مكافحة ومنع الفساد، ومتابعة تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وأن لجنة تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد تعد من أهم لجانه، والتي تتمثل أبرز مهامها في وضع خطط عمل سنوية في مجال تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، ومراجعة التشريعات المتعلقة بهذا الشأن مع جهات المعنية ذات الاختصاص، وكذلك الإشراف على الخطط الدورية الإعلامية والتوعوية في هذا الخصوص.

وأفادت أمل اليحيائية بأنه في مجال التطبيق العقابي- وإلى جانب القوانين آنفة البيان- فقد أفرد المُشرّع العُماني في قانون الجزاء مساحة واسعة ونصوصاً عديدة لصور الفساد المالي والإداري، معتبرا إياها من أشد الجرائم التي تمس بأمن الدولة، ابتداءً بجريمة الرشوة، ومرورا بجرائم إهدار المال العام والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء عليه، وجرائم التربح والغدر والعدوان على المال العام، وانتهاءً بوقائع الوساطة والمحسوبية، كما أن عقوبات تلك الجرائم قد تصل في البعض منها إلى عقوبة السجن المؤبد، وقد أفرد المشرع لذلك الأبواب من الثالث وحتى السادس من قانون الجزاء العماني.

وتضيف اليحيائية: "سن المشرع العماني العديد من القوانين التي تنظم هذه المسائل، ووضع لها العديد من الضوابط، لاسيما تلك المتعلقة بالمناقصات والمزايدات وإسناد المشروعات العامة، ومنها على سبيل المثال: القانون المالي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (47/1998)، قانون المناقصات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (36/2008)، وقانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (112/2011)، ولذلك فإن كافة الاحصائيات الرسمية تشير إلى انخفاض نسبة قضايا الفساد المالي والإداري خلال السنوات الماضية، ويرجع الفضل في ذلك إلى مؤسسات وهيئات الدولة ذات الصلة، والتي يأتي على رأسها جهاز الرقابة المالية والإدارية واللجان التابعة له".

ويقترح سعود المعولي بعض الإجراءات التي قد تعين في مكافحة هذه الظاهرة المدمرة، منها تقييم الأنظمة والإجراءات الداخلية للجهات والمرافق الحكومية بشكل دوري، وسد ما يعتريها من ثغرات وفجوات يمكن استغلالها للاستيلاء على المال العام أو التربح، ومحاربة البيروقراطية في الجهات الحكومية التيت عتبر بيئة خصبة ومثالية لكافة أنواع الفساد، بالإضافة إلى اتخاذ موقف حازم وجاد في سبيل أتمتة الإجراءات والسعي لمنع التدخل البشري في المعاملات والمناقصات والمزايدات وجميع الإجراءات الحكومية، وإنشاء إدارة خاصة للبحث والتحري وجمع الاستدلالات في شرطة عمان السلطانية لرصد التجاوزات التي تحدث في الجهات الحكومية سيما المرافق، وتأهيل وتدريب موظفي جهات إنفاذ القانون المختصين بمكافحة الفساد، ورفد أجهزة مكافحة الفساد التنفيذية والقضائية بالموارد المالية والبشرية الكافية، إضافة إلى إلزام مسؤولي الدولة وموظفيها بالإفصاح عن مصادر دخلهم، ووضعهم المالي، ورصد ومتابعة حركة حسابتهم وأموالهم في الداخل والخارج.

 ويقول أحمد الشيدي: "موضوع المناقصات أصبح أمرا شائكا وكثر فيه الفساد، مطالبا الجهات المختصة بمراجعة المناقصات السابقة فهناك الكثير من المباني والمشاريع مبالغ وأرقام فلكية لا يمكن استيعابها ويعقلها عاقل كيف وصل هؤلاء الناس بهذه المبالغ وبهذه المناقصات".

ويتابع الشيدي: "السلطنة بها الكثير من القوانين في مكافحة الفساد، وجهاز الرقابة يقوم بدوره، لكن لوحظ بعض الإشكاليات التي تحتاج إلى إعادة صياغة لأن هناك شبهات استغلال للسطلة، لذا يجب على المشرّع العماني اليوم سن قوانين تجيز للجهات المعنية استرداد الأموال والأراضي التي أخذت باسم القانون ولم يتم الاستفادة منها بالشكل المطلوب".

وتشدد أمل اليحيائية على ضرورة تبني وتطبيق مبدأ الشفافية الإدارية بشكل حقيقي، إلى جانب حوكمة النظام الإداري بشكل كامل وتكثيف حملات التوعية والتأهيل بمختلف المنصات الإعلامية ومنابر الهيئات الثقافية والدينية وهيئات المجتمع المدني، والتشهير علنا بمن يقوم بالاستيلاء على المال العام وجعل عين المواطن إحدى أدوات الرقابة لتسهيل الوصول للفاسدين والعابثين بأموال الشعب.

تعليق عبر الفيس بوك