ذكريات الكشافة (2)

 

 

 

خالد بن سعد الشنفري

الموقع الذي تمَّ اختياره لإقامة المعسكر كان على هضبة بها بعض التعرُّجات ليعطي الانطباع بالتنوع البيئي، وتحيط بها أشجار كثيفه، وهذا ما لم يعد موجودًا الآن؛ فقد أصبحت كل المنطقة من مسقط إلى بركاء متصلة عمرانيا، وتغيرت كل الملامح التي كانت في ذلك الوقت.

مساحة المعسكر كانت كبيرة، وشيدت على أطراف زواياه أربعة أبراج للمراقبة من مواد طبيعية من البيئة، بواسطة من سبقونا من زملائنا الكشافة من منطقة العاصمة، وقسم إلى أربع مجموعات رئيسيه تُسمى كل واحدة باسم معين، وكل مجموعة تتكون من عدة فرق؛ شُكِّلت من عدة مناطق تعليميه بالسلطنه، وكنا كشافة ظفار ومطرح نشكل مجموعة، ومسقط شكلت مع مناطق أخرى مجموعة أخرى.

أدهشنا فريق مطرح بتمكنه من أساليب وفنون الكشفية وصيحاته الكشفية المتعددة والشجية والحماسية؛ فقد سبق لبعضهم الاشتراك في مخيم بيروت العربي، واستفادوا منه كثيرا، ونقلوا ما تعلموه إلى زملائهم، وها نحن اليوم منهم نستفيد، واستغربنا أيضا من التنافس الشديد بين فرقتي مسقط ومطرح، حتى تكاد تشعر أنهم أعداء رغم كونهما جيرانًا؛ إلا أنه تنافس محمود يحفز، فانضممنا إليهم في المنافسة.

كل فرقة أخذت ناحية من الاتجاهات الأربعة للمخيم.. كان دخولنا المخيم عصرا، ويبدو من الحركة الدائبة فيه ونسبة الإنجاز أن بعض الفرق قد وصلت قبلنا بما لا يقل عن يومين أو ثلاثة، ويلاحظ أيضا أن أبراج المراقبة الأربعة للمجموعات الأربع قد أوشكت على الانتهاء من تشييدها من سيقان الأخشاب والحبال؛ فالكشاف يُكيِّف نفسه مع البيئة التي حوله، ولا يستخدم إلا ما لابد منه من المعدات الحديثة، ويستغل كل ما تقع عليه يده لفائدته ولإقامته وإعاشته قدر الإمكان، بل مطلوب منه أن يتفقد كل ما حوله، ويقدم العون والمساعد لمن يحتاجها.

هذا طبعا ما تعلمناه آنذاك بداية السبعينيات من القرن المنصرم، وكان العهد بتأسيس العمل الكشفي على مستوى العالم في أوج ذروته، والحماس له كبير، وقد تجدَّدتْ وتطورتْ أساليبه بعد ذلك لا شك، لا أدري اليوم بعد مُضي مايقارب الخمسين عامًا من ذلك التاريخ كيف أصبحت عليه الحال!!

كانت العديد من الخيم قد نُصبت، حيث إن على أي فرقة تصل المخيم أن تبدأ مباشرة في نصب خيامها.

كنا قد استقللنا الطائرة من صلالة ونحن نرتدي اللباس الكشفي، استعدادا للعمل عند الوصول مباشرة في إقامه خيم الإيواء وتجهيز أماكن الطعام والعبادة وخلافه "كن مستعدا شعارنا".

كان زملاؤنا من الدفعه التي وصلت قبلنا بيوم منهمكين كلٌّ فيما أوكل إليه، وأول ما لاحظوا قدومنا تقدموا للترحيب بنا بالصيحة الكشفية، فاستغربنا هذا المسلك منهم الذي لم نكن نعرفه، وأخبرونا أنهم قد عرفوا بعض الحركات والأساليب الكشفية الجديدة من زملائهم ذوي الخبرة السابقه في التخييم الكشفي من فريق مطرح.

أخذني أحد أصدقائي الأعزاء من يدي إلى الخيمة، وأخرج من حقيبته تفاحة وبرتقالة وأعطاهما لي، سعدت بذلك كثيرًا فقد كان عهدنا بالتفاح والبرتقال حينها في صلالة لا يزال حديثا، وتواجده نادر نظرا لصعوبة النقل بالطريق البري الترابي بين مسقط وصلالة.

رغم أن هذا المخيم كان الأول من نوعه على مستوى السلطنة، إلا أنه ظهر بصورة مشرفة، وهذا ما لاحظناه في حفل الختام، الذي كان برعاية المغفور له بإذن الله معالي الأستاذ حفيظ بن سالم الغساني مستشار صاحب الجلالة، وحضره العديد من الوزراء والأسرة المالكة وكبار المسؤولين وجمهور غفير من سكان العاصمة مسقط.

أُنِيط بي الوقوف على حراسة خيمة وُضِعت أمامها بعض ملابس الكشاف ومقتنياته وخلافه، وبعض أدواتنا الشخصية، وكان الحضور في مرورهم على جنبات المخيم يسألون أحيانا عن بعض الأشياء. توقفت عند خيمتي مجموعة من فتيات مسقط الجميلات، أثار انتباهي التحرُّر الذي كُنَّ عليه؛ فمنهن من كانت ترتدي بنطلون (شارلستون) موضة تلك الفترة في العالم، بل وبعضهن مُطلِقة لشعرها، سبَّب لي ذلك إحراجا شديدا؛ فلم أكن متعودا على ذلك ومن عُمانية فلم تكن أي فتاة في صلالة تجرؤ حينها على خلع النقاب، أُصِبت ببعض الارتباك لاحظته بعضهن، طلبت إحداهن أن أريهن الربطة الكشفيه، فارتحت لذلك السؤال قليلا؛ لأنني أجيدها وبسرعة أداء، وأخذت الحبل وربطته على عمود الخيمة، ومن ثم سحبت أحد أطرافه لينفك بمنتهى السرعة والسلاسة، ابتسمن وصفَّقن، تشجعت أكثر وقمت بربط الحبل على شكل دائرة (قيد) كنا نستعمله عندنا في ظفار لطلوع نخيل النارجيل، وأضفت من عندي بمغالاة أنني كنت بهذا القيد أطلع نخلة نارجيل يزيد ارتفاعها على العشرين مترا، وفي ثوانٍ معدودات، رغم أن ساق نخلة النارجيل أملس وليس كنخلة التمر التي تعرفونها؛ حيث بساقها بقايا أغصانها السميكة (جزوم) تساعد مُتسلقها على تثبيت أرجله مع كل قفزة طلوع.

استحسنَّ الأمر وسرَّني ذلك، إلا أن واحدة منهن باغتتني بسؤال قاتل؛ فقد كان الشباب بالخيمة قد صفوا فرشاة أسنانهم أمامها للعرض، وكانت معظم هذه المساويك في تلك الفترة تتشابه؛ إضافة إلى أن العديد منها بلون واحد، قالت: "أرجو أن تخبرنا كيف تتعرفون على فرشاة كل واحد منكم وهي بهذا التشابه؟!".

كان السؤال مباغتًا، وبعثر فرحتي؛ لأنه ليس لديَّ جواب مُقنع، إلا أنَّني تداركت سريعا محاولا إيجاد إي تبرير، فقلت: الكشاف يمتاز بالتركيز وسرعة البديهة، ولن يخطئ فرشاته.. شَكَرْنَني وغادرن مع ابتسامات خفيفة جعلتني أتصبَّب عرقًا.