سالم بن نجيم البادي
كتبت هذه الحكاية منذ زمن بعيد، وأعيد نشرها الآن، ربما لأن أحداثها ما زالت مستمرة حتى اليوم.
لا أريد النوم هذه الليلة، في قلبي هوى جارف لمدينة الحلم، أحتسي فناجين القهوة، أتقوى بها على تحضير دروسي، دخل المشرف الهمام كما أولئك الداخلين إلى اجتماعات القمم العظمى، لا يلوي على شيء، نادى للمثول بين يديه، ينظر في الخطط السنوية ودفاتر التحضير ودفتر الدرجات رافعًا ذراعيه، مسرعًا يمشي، يدلف إلى الفصل، يختار كرسيًا في آخر الحجرة، عجبت من شاربه ولحيته المحلوقين بعناية فائقة وهو يسترق النظر إليَّ من تحت نظارته، شارلوك هولمز، حسنا هفواتي كثيرة، سهلة الاصطياد، يكتب ملاحظاته، تبدو لي كثيرة ويخرج منتصرا بصيده الوفير. والأستاذ حمدان يسأل نفسه كم حسابي هذا الشهر لبقالة المدينة وبقالة الحي وبائع الغاز، ووقود السيارة له نصف الراتب وفواتير الكهرباء وعليَّ ديون بناء البيت وشراء السيارة والمصروفات تزيد والغلاء يتفاقم.
"كم أتمزق" قالها جارنا الأستاذ حمدان العود، عن يوميات مدرس "غلبان". أريد العيش بسلام، ويجيء الصباح، تمتلئ نفسي أملاً، وذكر الله زادي، أريد الذهاب إلى العمل سليم الصدر، منشرح الفؤاد، أصبحنا وأصبح الملك لله، أعود إلى البيت مرهقًا، ألوذ بالصمت، من يحترم صمتي؟ إنني أتجلى، أفكّر، أطرق مليًا، أخلو إلى ذاتي، ألهو مع طفلتي، أحاور كتابي، أكتب وأمحو، أكلّم أمي، يسألني أبي عن الأخبار، أمر البيت، أضع لبنة وأهدم أخرى، أعتني به.
أتذكر صديقا ما، هاتفته منذ زمن، أشعر بوخز الضمير، وما كتبت ردا على رسالة تلميذي النجيب.
الليلة برد، وأنا أنسج من الأوهام رداءً استدفئ به في وحدتي والليل. تزورني أطياف في المساء، فتجدني وحيداً تهزأ من تمزقي الداخلي واضطرابي، أخفي وجهي بين يدي، أصيخ السمع لصوت الريح.
أعد نفسي بسلام قريب معها، ويطول الانتظار، نافذة على حجرتي مغلقة على وحدتي، والأدراج صدئة، أبوابي مشرعة للريح والعنكبوت والغبار.
أبحث عن طريدتي عشرين عاماً مضت، تخبّ رواحلي دوما هذا الليل، ووحدتي أسكرتني بهجة الحب زمنا كنَّا نحتفل بربيع الروح.
أبصرت عن بعد خيالا كنت أطارده، لا الوصول ممكن والعود مستحيل.
كانت راحلة أتذكرها أحياناً كثيرة وهي كل هذا النزق والغياب والحضور، ولعبة الليل وعدّ النجوم وأطياف الماضي، دفء مفقود تحت لحاف الليل، أمد يدي وذاكرتي فأجد سراب أيامي ها هنا هل سمعت عن القوم؟ وقد أكلوا خبزي ورحلوا ونهبوا مضارب ليلى في غياب قيس.
قال حمدان العود في نشوة وسرور: تلك حكايتي يا سادتي، وبرز للميدان يحلم، ويعلم الأطفال الحلم، واتخذوه قدوة، وحيث يمر في الشوارع والأمكنة، يأتون إليه يقولون: يا أستاذ حمدان احكِ لنا حكاية الغد الجميل، والأمل الحلو، ويمضي يمارس تفاصيل يومه المعتاد ممسكا كراسا وقلما والحاسب المحمول يترقب زيارة المشرف ومسؤول التربية ومسؤول الوزارة ومدير المدرسة ومسؤوله المباشر ومدير المنطقة.
وحمدان هذا صبور وكل شيء يهون وكل شيء مقبول وهو يربي جيلا بعد جيل.
قال حمدان العود: كل ما أرجوه الآن شيخوخة آمنة.