خطبة عصماء وحضور "ما سمعش حاجة"!

 

د. سلطان بن خميس الخروصي **

تشكل خطبة الجمعة مسارًا مهمًا في حياة المسلمين؛ فهي تُذكِّرهم بما جُهل أو نُسيَ من معالم الدِّين الحنيف، فتستلهم عقولهم بصنوف العلم والمعرفة، وتُنير بصيرتهم عن صنوف الغزو الفكري الذي قد يضربُ ثوابت الأمة وجيلها الواعد، كما إنها منبر مكين يُدخل الأمة في عُمق الشعور الإنساني المجيد في المناسبات الوطنية الخالدة، وهي أحد أبرز المسارات المُمكّنة لتقديم النصيحة السَّوية ولسان حالها ما أُثر عن نبي الأمة "الدّين النصيحة"، وكل ذلك يوحي بأهمية أن تكون لغة الخطاب الموجَّه للناس مُفعمة بالنَّشاط، والحيوية، والبساطة، وجزالة المعنى، وترابط الفقرات مع بعضها البعض ليكون المغزى سهل الاستساغة والالتقاط.

ينطلقُ هذا المقال من مشهد أيام الجمعة المُباركة، حينما التقيت بأحد الخُطباء الأفاضل بعد أن قدم خطبة عصماء للناس، فكان سؤالي له ما هو عنوان الخطبة، وهل تتوقع أن الحضور قد استوعب الأفكار والرسالة منها؟، فقال لي باختصار "أنا وحدي ما فهمت منها شيء!"، وهنا الإشكالية التي لابُد لنا من الوقوف عليها بمسؤولية وتَبصُّر، وهي رسالة نوجِّهها للمعنيين بكتابة خطب الجُمعة بالمؤسسات ذات الصلة، فبساطة اللغة، وترتيب الأفكار، وسلاسة الطرح، وانتقاء المُفردات، واختيار الرؤية والرسالة أهم من طباعتها ونشرها على الخطباء الأفاضل لتُقرأ على عقول النَّاس، فخطبة الجمعة لا تتطلب ترادفًا مزعجًا للمفردات، ولا غلوًا في السجع، ولا تعقيدًا في المغزى، ولا مشقة في اللغة، ولا فلسفة في الرسالة والغاية.

إن من يتتبَّع خطب النبي الكريم يجدها جزلة الطرح، طريَّة اللغة، عظيمة المعنى، عميقة الرسالة، مفتاحًا للقلوب، بلسمًا على الأفئدة، نحن بحاجة إلى لغة خطاب تتوافق مع تباين شرائح المجتمع على اختلاف أعمارهم وأعرافهم وعقولهم وأجناسهم، وعمان بلد الأمن والأمان والسلام، تصدح بالدعوة والرُّشد والنُّصح في مشارق الأرض ومغاربها بأساليب عصرية ولغات سهلة وبسيطة، وذلك ما نحتاجه في خطب منابرنا التي تمثل مسارًا مهمًا لتحقيق الأمن الفكري والمجتمعي والأخلاقي؛ فالخطيب وما يتلوه على النَّاس لا يقلُّ أهمية عن رجل الأمن والمعلم والطبيب وغيرهم الذين يُمثِّلون صمَّام الأمان وتحقيق الاستقرار.

كثيرة هي الموضوعات المعاصرة فكريًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ودينيًا وتاريخيًا وتربويًا التي يُمكن أن تحتضنها خطب الجمعة في منابرنا، وهي بحاجة لمن يأخذ بها ويقدِّمها للجمهور في قالب سليم سويّ يُقدِّم الرسالة النبيلة بمسؤولية تامة، ويحقق الغاية السليمة، فنحن بحاجة إلى أن تُكتب من مدارس ومشارب فكرية وعلمية متنوعة دون أن تكون محتكرة على مؤسسة بعينها؛ ليتحقق التكامل المنهجي واللغوي والمنطقي في طرحها، وإن بقيت مسؤولية المراجعة والتدقيق والإخراج النهائي للمؤسسة المعنية، فمن بلغ من صنوف المعرفة في التربية- على سبيل المثال- يمكنه أن يُقدِّم موضوعًا جوهريًا في مجاله لن يُتقنه من تشرَّب من صنوف العلوم الشرعية والعكس صحيح، كما إن رجل الاقتصاد يمكنه أن يقدم في الادخار والاستثمار وتعزيز القيم الاقتصادية ما يشق أن يُقدمه من تعلَّم الوعظ والإرشاد وهكذا دواليك.

نحن بحاجة إلى إعادة البوصلة لخطبة الجمعة ذات اللغة الجزلة البسيطة، وصاحبة الرسالة الواضحة البيِّنة، تتباين فيها الموضوعات بما يتوافق مع متغيرات المرحلة وما يعيشه الناس في واقعهم بعيدًا عن المثالية المُبالغ فيها والتكلُّف والتكرار، فلا يُمكن أن تكون مجرد حضور لقضاء الوقت وكسب الأجر والاستراحة من مشقات الحياة فحسب؛ بل ينبغي أن تكون حديث القلب والروح؛ فهي النَّصيحة الأسبوعية التي ينبغي أن تتسم بالمعايير والسمات والأسس السليمة، لا أن يكون خطيبنا يصدح بخطبة عصماء وحضورنا وكأن على رؤوسهم الطير "ما سمعش حاجة".

** كاتب وباحث