خليفة بن عبيد المشايخي
قدَّر الله تعالى لي أن أنشأ في قرية بسيطة مُتواضعة من قرى ولايتي مسقط رأسي في جنوب الشرقية، وحينما تدرجت في مراحلي العمرية، تنقلت إلى ولايات كثيرة من عماننا الحبيبة؛ سواء للزيارة أو تلبية لدعوة كريمة من أهلي، ووقتها حالي كان كحال الكثيرين؛ إذ إنني لم أكن أعي الكثير، وما كنت أتذكره عن نفسي وأنا صغير أنني إذا وجدت جريدة في "الحضيبة" أصفر لونها من الشمس، آخذها وأقرأها كاملة، ولم أكن أعرف السبب وقتذاك، إلى أن كبرت وفهمت أن المولى عز وجل، أودع فيني موهبة حب القراءة والاطلاع.
وفعلاً كبرت وصرت أحب القراءة والاطلاع والثقافة حبًا كثيرًا، وكنت عضوًا بالنادي الجامعي آنذاك- النادي الثقافي الآن- وكنت أركب التاكسي من بدبد إلى مقرات صحف عمان والوطن والشبيبة، لمتابعة الأخبار والمواضيع التي أبعثها وأكتبها قديما؛ إذ تشرفت بأن كنت مراسلاً صحفياً لولايتي في إحدى صحفنا المحلية، وبعد هذه المرحلة المفصلية، عملت بحمدالله وتوفيقه إعلاميا وكاتبا صحفيا في إحدى الجهات العسكرية، وأثناء عملي هذا وبعده، سافرت لإكمال دراستي الجامعية وما تلاها من الدرجات العلمية.
المهم هذه التجارب السابقة، جعلتني أتعرف على علماء الدين ومشايخه، وأحضر مجالسهم ومحاضراتهم ودروسهم وأنا مفتقر إلى الله تعالى، وتعرفت أيضا على المثقفين والأدباء والكتاب والإعلاميين والصحفيين وغيرهم من الناس من داخل السلطنة وخارجها.
وعرفني تواجدي في حقل الإعلام وفروعه ومجالاته، على الكثير من الناس من مختلف الطبقات والفئات، وكنت أرى الأوضاع تزداد تطورًا هنا وهناك، وكنت مع ذلك استشعر وأحس وأرى، أن كل تلك البهرجة من انشغالاتنا في الدنيا وبالدنيا، لم تكن بيئاتها تزيد من منسوب إيماننا ومعرفتنا بالله حق المعرفة، ولم يكن تلك يدوم تأثيرها طويلا وكثيرا ومستمرا، ولم نكن فيها نفهم اليقين عليه تعالى، وأن يقيننا عليه يجب أن يكون عكس الذي كنَّا نعرفه، فاليقين بالله تعالى هو معرفتنا وفهمنا له حق المعرفة بجلاء ووضوح الفهم، وبأنه تعالى هو كل شيء وفوق كل شيء وخالق كل شيء وموجد كل شيء وآتٍ بكل شيء وذاهب بكل شيء ومدبر كل شيء، وإنه الخالق وغيره مخلوق، وإنه الرازق وغيره المرزوق، وإنه القادر وغيره غير قادر، وإنه النافع وغيره لا ينفع، وإنه جل جلاله الضار وغيره لا يضر إلا بإذنه وبعلمه، وإنه لا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك إلا بإذنه، وبأننا جميعا جوعى ولو تكدست بيوتنا بالطعام لأنه هو من يطعمنا ويسقينا، وبأننا كلنا عراة إلا إذا كسانا الله تعالى، وكلنا ضعفاء وهو القوي جل جلاله، وبأننا مرضى ولا شافي غيره جل جلاله.
وكانت ثمَّة تساؤلات تراودني في أنه ليست الأشياء التي نؤديها والأماكن والبيئات التي نتواجد فيها آنذاك، تقربنا من الله أكثر.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قيل ومن يأبى يا رسول الله ؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.
كذلك الذين يصلون كم من الوقت يلبثون بعد الصلاة في مساجدهم، وهل هم يقرؤون القرآن يوميا وغير هاجرين له، كل ذلك يجعلنا نتساءل ونطرح العديد من الأسئلة؛ فالحقيقة كثير من الأمور نقوم بها كمسلمين، تحتاج إلى تصحيح وإعادة نظر، لأننا سنرحل بمفردنا فقط عن هذه الدنيا، وسنكون تحت الأرض التي كنَّا فوقها مع أعمالنا، وهذه مسألة يجب التوقف عندها.
فبعد موتنا لن يحزن عليك أحد كل عمره، والدنيا بدونك وبدوني ستستمر، والزوجة ستتزوج غيرنا، وبيوتنا سيسكنها غيرنا، وأموالنا ستوزع لغيرنا، وأولادنا وأقرباؤنا بعد أيام سينسوننا، إذن الذين نشتغل من أجلهم الآن لن ينفعونا أبداً حتى بحسنة واحدة.
منذ مدة انتقلت من سكني السابق لأسكن بجوار أحد الجوامع في مقر سكني الحالي، وفيه كنت أرى شخصًا هادئ الطباع مبتسماً أصلي كل يوم بجواره في الصف الأول، إلى أن شاء الله والتقينا أنا وهو ذات يوم في روضة من رياض الجنة، فسلمنا على بعضنا وتعانقنا وتعارفنا وقلت له "ألست أنت الذي التقيك في الجامع كل يوم"، قال: "نعم واسمي مانع، وأنا كنت متفكر فيك"، ثم تبادلنا الأرقام وقال: "تُقام عندي كل أربعاء في بيتي حلقة تعليم للنساء وأحيانا يكون قبلها بيان، فحسناً لو تحضر أهلك"، ففرحت لهذا الخبر السعيد وقلت له: "أهلي يحضرون حلقة تعليم في الحيل الشمالية بيت الشيخ سيف المعمري، ويوم الأربعاء بيت الشيخين سعيد الراشدي وسيف اليحيائي، ويوم الخميس أذهب بهم إلى العامرات بيت الشيخ حارب النعماني، فهناك أيضا تقام حلقة تعليم للنساء"، طبعا فوائد هذه الحلقات للزوجات والبنات كثيرة ولا يتسع المجال لشرح ذلك.
المهم قلتُ لجاري الذي تعرفت عليه في شهر أغسطس الماضي والذي توفي صباح الإثنين الماضي تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، إذن الأولى أن يحضر أهلي حلقة التعليم التي في بيتك، وفعلا واظب أهلي على حضور حلقة التعليم التي كانت تقام في بيته.
ويوم الإثنين الماضي كنت في مدينة صور لعمل ما، وما لبثت أن أنهيته، إلا ويصلني خبر مفجع بأن مانع توفي، سبحان الله! فقال الذي نقل لي الخبر، صلينا اليوم الفجر أنا ومانع في المسجد جماعة، وفي الضحى ذهب لسوق الموالح وهناك أتاه ريب المنون، فسبحان الله. أتاه الموت فجأة وهو قد صلى الفجر جماعة وذاهب لمقصد الدين ولإحياء الدين، فيا الله.
فيا أيها القارئ الكريم.. إياك أن تغتر بصحتك أو بشبابك أو بمالك أو بجاهك أو بمنصبك أو بقبيلتك أو بنفسك أو بعملك أو بعلمك، فلا تغرنك الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، فكم من صحيح مات من غير علة، وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر، "فيا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد؟! أفإن متَّ فهم الخالدون؟!".
نعم آخي الكريم كل الذي لا ينفعك في قبرك وليس من العمل الصالح دعه، فالميت يتبعه ثلاثة أهله وماله وعمله، ويرجع منهم اثنان ماله وأهله، ويبقى عمله الصالح، فاحرص بارك الله فيك على العمل الصالح لطالما أنك حي ولم تخرج من الدنيا مرغما، ولطالما أنك حي، فلا تغتر ولا تؤجل، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.