د. مجدي العفيفي
(16)
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه) بلى.. أنت فينا يا رسول الله
سيدي يا أيها المُزمل، علمتنا يا سيدي الاجتهاد، وتحركت أنت بنفسك، فكنت الأسوة والقدوة والجذوة، تحركت بفكرك ووعيك نفسك وعقلك وبشريتك وفطنتك وإنسانيتك وظروفك الزمانية والمكانية، وعلمتنا الحركة، وأدخلت في لغتنا وحضارتنا، كل أفعال وصفات وأسماء الحركة بعد أن سيطرت عليها مقولة «البكاء وقوفا» لكنا سكنا وسكتنا.. وغلّقنا أبوابنا وانغلقنا.. واكتفينا بأنفسنا.. وكفونا أنفسنا.. فانكفأنا على وجوهنا.. وضاع منا الطريق إلا قليلا!
على يديك تعلمنا الحرية يا رسول الحرية، الحرية في كل شيء، حررتنا وحضرتنا وكسرت أغلالنا، وعتقت أفكارنا، لكننا لم نستوعب كما ينبغي أن يكون الاستيعاب، فأصبحنا نغل أنفسنا، ونقيد طاقاتنا، ففقدنا عنصر «المقاومة» في الحياة.. وفهم كثير منا وأفهمنا الكثير دوننا أن الإسلام هو الاستسلام، والتسامح هو التفريط، والتصالح هو الانكسار، والسلام هو الخضوع.
علمتنا يا سيدنا أن كل شيء في الإسلام «حركة» الإسلام نفسه حنيفية سمحاء، لكننا، في معظمنا، جمدنا وتجمدنا إلا قليلا، نتلقى الفعل حولنا، ولا نتفاعل مع عالمنا، طغت ثوابتنا على متغيراتنا، فاختل التوازن، وسجنا عقولنا في خيوط هي أوهن من خيوط بيت العنكبوت؟! ولا ندرك حق الإدراك معنى أن ميلاد سيدنا أعاد انسجام الإنسان مع الوجود كله!
ما أحوجنا إلى نظرة منك، ونفحة منك، ولفحة منك، مع أنك تركت فينا، يا سيدي «ما إن تمسكنا» به فلن نضل بعدك أبدا، إن «الشرطية» هنا يا سيدي هي «الحبل السري»الذي يريدون أن يقطعوه، سكاكينهم حادة، وحارة، ونحن يا سيدي متمسكون مسكونون بالأوجاع، لكننا نقاوم ونقوم، حين تتجلى مناسبة مولدك يا سيدي، فنتخلى عن الهوامش، ونتحلى بإيقاظ المزيد من الشعور القومي، وتؤجج فينا نار الولاء.
أخبرك يا سيدي، أن نورك لما يزل فينا متوهجا، بل في الدنيا كلها، وما هذا الرعب الكامن في أعماقهم، وما محاربتهم لك بكل الوسائل إلا الدليل على «التوهج المحمدي»؟!. و أننا نخوض قرنا جديدا.. متدثرين برداء محبتك، حتى وإن صارت قلوب بعضنا على بعضنا، أشد من الحجارة قسوة، لكنها أرحم من قسوتهم، وشراستهم المتحضرة، وحقدهم الدفين
أخبرك يا سيدي، أن شجرتنا لا تزال مثمرة ويانعة، وإلا ما كل هذه الحجارة التي يقذفوننا بها ليل نهار، في وسائلهم الإعلامية، في محافلهم، في مؤلفاتهم، في اختراعاتهم، في صواريخهم، في تواطئهم.. و..و..أخبرك يا سيدي، أننا لم نعدم الأمل، ولن نعدمه، ما دامت مآذننا مشتعلة بـ«الله أكبر» وقلوبنا ليست غلفا، وإن حاولوا إغلاقها بأقفالهم، أو حتى بأقفالنا، وهم مدهنون في ذلك، ساعون إلينا بكل المساعي والأفاعي..! لكن صحوتنا، صيحتنا، صرختنا، لاتضيع أدراج الرياح، فالصباح فينا يتنفس، والليل إذا يعسعس فإنه يشعل فينا الفجر ولياليه العشر، ويوقد فينا نار الايمان، الايمان ذلك الرائع والمروع، المدثر باليقين، اليقين غير المراوغ..!.
ثورتك فينا متأججة بقاموس الثورة النبوية، تلك الثورة التي قدتها يا سيدنا النبي والرسول الثائر، واعتبرها الباحثون والمنظرون في الشرق والغرب قديما وحديثا، ثورة كبرى شمولية في التاريخ الإنساني، غيرت وجه التاريخ؟
(17)
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه) بلى.. أنت فينا يا رسول الله
كثيرة هي التحديات الخارجية، وكثيرة هي أيضا محاولات الهدم الداخلي، من أراذلنا بادي الفكر، ضعاف النفوس، جلادي الذات، خدم «حقيقة المؤامرة» وليس «نظرية المؤامرة» كما تنبه لذلك أصحاب الأقلام ذات المسحة الفروسية التنويرية في التصدي للدعوات الانهزامية، التي يقودها قطيع يسعون بكل الطرق والوسائل إلى تحقيق هدفين: «الاستغناء عن السنة النبوية» و«إعداد تفسير للقرآن تفسيرا عصريا»؛ بل وصل الأمر بهم أن نشروا على العالم ما أسموه بـ"الفرقان الجديد" وطبعوا منه ملاين النسخ بتوجيه رئيس أمريكا فقير الفكر والأخلاق والسياسة «بوش الابن» وكلما نظموا مؤتمرا منحوا جوائزهم، ذات الغواية المالية والبريق المادي، لمن يشككون بحقيقة القدس ومكانتها في الإسلام وأن المسجد الأقصي ليس هو الموجود الآن في فلسطين، وبالتالي ينفون حقيقة الإسراء والمعراج، ومن يؤلفون كتبا تحل كثيرا من المحرمات، ويطبعونها لهم، ومن يخدشون الثوابت والأصول والمرجعيات، وهم لا يفقهون مثقال ذرة في الفكر الإسلامي، وهكذا بدأت تظهر ملامح خططهم تحت المسمى الوهمي والمغرض والكاذب «تجديد الخطاب الديني» فالتجديد، إذا كان لا مناص منه في أمور بعينها لا يأتي بقرار فوقي، أيا كان، ولا يقوم عليه فئة بعينها، فالذين يجددون هم المفكرون الأحرار، والباحثون المستنيرون، والذين يمكلكون نواصي القراءة الكاشفة، فالتجديد يأتي من الحراك الفكري والبحثي. ومن تفاعل الآفكار، والإبداع لا الابتداع.
المفارقة، أن أعداء الإسلام، بعد انتزاع هذه الأقنعة، أدركوا أن الخصوم التقليديين للإسلام في الإعلام والفن والبحث، ينتقدون الإسلام بلا وعي أو منهجية، فأدركوا أنهم ساقطون، فغيّروا من استراتيجيتهم، فدعموا أشخاصا آخرين ومؤسسات جديدة، ومساحات في الميديا، وحتى يقطع الغرب الأوربي والأمريكي الطريق، على من يحاول أن يكشف ويحذر، ويفضح حقيقة مخططاتهم الخبيثة، أطلقوا عبارة «نظرية المؤامرة» لتكون هذه العبارة ذات المآرب الأخرى، حاجزا يمنع كل من يحاول فضح مخططاتهم، لذلك يصفونه بأنه «ذو عقلية ساذجة وتفكير سطحي» فصارت هذه العبارة أسلوب سُخرية وانتقاص ممن يتكلم حول هذه الخطط.
(18)
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه) بلى.. أنت فينا يا رسول الله
سيدي يا أيها المدثر.. دثرنا بصلاتك أو بعض صلاتك، صل علينا يا سيدي، لنتدثر بكل حرف من حروف اسمك، الذي هو أكثر الأسماء المتداولة في عالم كوكب الأرض، صل علينا يا سيدي، وأنت مبعوث السماحة والصراحة والهداية والعناية والرعاية والانزال والتنزيل والبلاغ والتبليغ.، السلام عليك يا سيدي، من ملياري مسلم مؤمنين بك، وشاهدون لك: أنك محمد رسول الله.. وأنك نبي الله.
أصلي عليك يا سيدي بكل جوارحي وملامحي، وشواهدي ومشاهدي، وقواعدي وقوائمي، وظواهري وبواطني، تسليم إنسان ليس فقط مجرد كائن مسلم مؤمن، بل إنسان كوني ومواطن عالمي، يعيش في قلب القرن الخامس عشر الهجري، ويتحرك في مطالع القرن الحادي والعشرين الميلادي.. يحدق ويحلق، وينظر ويناظر، بمعطيات عصره، وعطاءات أصله، فيشهد هاتفا بعمق وحق: أنك أنت سيدنا محمد، الإنسان، النبي، الرسول، الذي أعاد، يعيد انسجام الانسان مع الوجود كله، ولا يزال بكينونته، وصيرورته، وسيرورته، وآثاره، ومآثره.
(19)
الصلاة والسلام عليك وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، سلام يتجلى من نورانيات الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
اللهم بارك لنا في نبوته وفي رسالته وفي كينونته وفي صيرورته وفي سيرورته وفي آثاره وفي مآثره..
اللهم صل على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين.