جلد الذات ليس حلًا

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

في رحلة كفاح طويلة مع الحياة يتعرّض النَّاس إلى المحن والضغوطات في العمل والمنزل، وتنشر وسائل الإعلام يوميا الكثير من القصص والقضايا، التي تحمل بين طياتها مُعاناة الأفراد والمجتمعات، فالبعض لا يرى من حياته غير المزيد من الحروب لا هوادة فيها، يسعى من خلالها إلى تحقيق الأمان .

في رحلة الحياة أصبحنا نواجه العديد من الأزمات، كأزمة البطالة والتضخم والحروب والفقر وغيرها من الأحداث، التي تضع الإنسان تحت ضغوطات نفسية تشعره بالضعف وقلة الحيلة والإحباط تتحول عند البعض إلى التفكير في الانتحار أو الاستسلام لحالة اكتئاب، ويعظم المناخ العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السلبي للمجتمع، من شعور الأفراد بالإحباط والهزيمة والدونية، كذلك البيئة الاجتماعية التي تربي الأبناء على الدونية، أو الوالدين اللذين يدفعان الأبناء نحوالتفوق بممارسة الكثير من الضغوطات النفسية، سيدفع بهم الإخفاق إلى تحقير الذات والتقليل من شأنها ولوم النفس والتفكير السلبي.

في رحلة الحياة تجبرنا المواقف على الفشل أو التصادم مع الآخر، قد يحدث الاختلاف ويضيع الود أو نختلف ويبقى الاحترام، إلا أن بعض المواقف الحياتية الصعبة تخلف في أرواحنا جروحا وحالة من الإنكسار وعدم الثقة بالنفس، فندخل في دوامة من جلد الذات .

جلد الذات شعور يظهر مع توالي الهزائم والمحن بسبب أجواء الإحباط الذي يُخيم في كل مكان فيبدأ الإنسان بلوم نفسه ويحملها أكثر من طاقتها، فيعجز عن مسامحة نفسه أو التصالح معها، فيُواصل توبيخ الذات، ويُقلل من أهمية إنجازاتها ويرى نفسه فاشلاً، فيختار الإنزواء، والتقوقع على النفس، ويساير الأحداث ولا يغير شيئاً من واقعه، لأنه فاقد السيطرة، ويبحث عن الإطراء من الآخرين، بل قد لا يرى في النجاحات التي تحدث من حوله إلا عيوبا كجزء فارغ من الكأس.

يرى البعض في جلد الذات والشعور بالألم الوسيلة المثلى للتحفيز وتقويم النفس، وجعلها أكثر إدراكا لما يحدث، فينغمس مع الذات في حوارات داخلية تدور في نفسه، وغالبا ما يتخذ قرارات خاطئة .

نوع آخر من جلد الذات الذي يمارسه المنسلخون عن هويتهم، الذين يرون في جلد الذات الوسيلة لتحقيق النجاح والتقدم، فمن وقت لآخر نقابل من يعتبرون كل ما هو وطني أو عربي لا قيمة له، ويعد رمز التخلف والهمجية والرعونة، يمارسون جلد الذات والتجريح والتشكيك حول كل نجاح أو إنجاز يخص الوطن أو العرب ويرون أنفسهم بردائهم الجديد، قد تخلّصوا من جذورهم وهذا بعيد كل البعد عن الحقيقة، فهم لا يختلفون عنَّا، فالإنسان لا يملك أن يمحي جذوره مهما أراد، هؤلاء ليسوا خارج دائرة التخلف بل هم يمارسون جلد الذات باستمرار ويعيشون حالة انفصام ثقافي، فلا تراهم يرون في هويتهم وثقافتهم بقعة ضوء أبيض .

باتت وسائل التواصل الاجتماعي مكانا لعرض قضايانا العامة والخاصة ومساحات للمناقشات الفكرية والسياسية والاجتماعية، حتى أصبحت مرتعا لكل من يرغب في التحدث بغض النظر عن سلامة المحتوى وأهميته. ويمكن القول بأن الشعوب العربية، تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي متنفسا، لتفريغ الكبت بكافة أنواعه وجلد الذات، وملاذاً للتعبير بحرية إلى حد ما، فالكل يدلو بدلوه بغضّ النظر عن تأثير ما يقوله على الفرد والمجتمع، من النادر أن يتسنى للإنسان العربي بشكل خاص مساحة للتعبيرعن ذاته وما يجول بخواطره، خوفا من المجتمع فيولد معه الكبت الذي قد يؤدي إلى الانفجار أوجلد الذات.

يقول علماء النفس إن جلد الذات يختلف عن نقد الذات التي تكون مراجعة للنفس من أجل تقويمها وتصحيح مسارها، فجلد الذات هو لوم النفس المتكرّر والشديد. ويرى العلماء أن من أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى جلد الذات، الهروب من الفشل، والفراغ الكبير، وفقدان الأمل، والأفكار السلبية، والكسل، والخمول، وعدم ممارسة الأنشطة الرياضية، وانعدام الثقة بالنفس والتأثر بما يقوله الآخرون.

فهل فعلا نحن بحاجة إلى التصفيق كي نتأكد أننا جيدون؟ وإلى الدعم من الآخر لإنجاز ما نحلم به؟ ألا يكفي أن نمتلك الثقة والقدرة على مصالحة النفس؟ إذا جار علينا الزمان وأخفقنا دون الحاجة إلى إرضاء الناس من حولنا؟

نحن نبحث في محيطنا الكبير، لإصلاح ما يدور في أنفسنا، ولا نبحث في دواخلنا ونواجه مشكلاتنا ونعترف بأننا لوكنا جزءا من المشكلة فنحن أيضا جزءا من الحل .إن الإنسان المتصالح مع ذاته ليس ماديا ولا أجوف، ولا يجرح الآخرين بكلمة أو فعل ولا يتدخل في شؤون الناس بدون دعوة صريحة منهم. إن أسمى مراتب الاحترام تقدير النفس، وأجمل درجات المواساة مواساة النفس .من الطبيعي في معترك الحياة أن نجابه الصعوبات والتحديات، فبلوغ الأهداف لا يؤتى من فراغ بل بعد صراع مع الحياة ولحظات إنكسار وسقوط ومن ثم الصعود والنجاح .

الإنسان كائن غير مثالي، فالبشر غير معصومين من الأخطاء، ولا يمكن أن نبلغ الكمال مهما سعينا، فاللوحة الناقصة جميلة بعيوبها، ينظر البعض إلى نجاحات الغير على أنها تحد أونقص فيه، فكما أن التنمر على الذات يحطم النفس فإنَّ التسامح والتصالح مع النفس يرفعها ويحفزها للعطاء والنجاح.

التعاطف مع الذات هي مرحلة تقبل النفس والترفق بها، يساعد على رؤية الأشياء بنظرة واقعية ويحفز من هرمون السعادة ويقلل من التوتر ويحفز على الإنجاز، فكما نتعاطف مع كل صديق يمر بأزمة علينا أن نتعاطف مع أنفسنا ونربت عليها حتى تهدأ.

الأفكار السعيدة تجلب معها السعادة، فالتفاؤل والتفكير الإيجابي وتجاوز الأفكار السلبية التي تدور في النفس له تأثير في التعافي .

جلد الذات لا يعد حلا، فنحن لا نملك أن نغير المجتمع والأحداث الخارجة عن إرادتنا، لكننا نملك أن نتعاطف مع أنفسنا، وأن نتعايش مع الواقع ونبحث عن حلول تتناسب معنا، الشيء الوحيد الذي نستطيع القيام به، هوأن نعيش الحياة بحلوها ومرها،وأن نحيط أنفسنا بكل ما هو إيجابي، ونبتعد قدر الإمكان عن الأجواء المحبطة، يقول الإمام الشافعي لا حزن يدوم ولا سرور.. ولا بؤس عليك ولا رخاء، وإذا كنت ذا قلب قنوع فأنت ومالك الدنيا سواء.