محمد بن سالم البطاشي
عادت قضية القدس الشريف من جديد لتُذكر الذين على قلوبهم أكنة وتُسمع من في آذانهم وقرا، بأنَّها قضية عادلة خالدة لو كانوا يعقلون، فهي راسخة في وجدان ذوي الضمائر الحيَّة والفطرة السوية، لا يحجبها إعلام مُضلل، ولا تضرها سياسات متناقضة عرجاء منافقة تكيل بمكاييل مختلفة بدون حياء، فالقدس هي قضية القضايا ولب الصراع وجوهره، والحد بين الجد والهزل والعدل والظلم والرشد والضلال، على المستويات الإنسانية والفكرية والاجتماعية والسياسية.
وقد تناقلت الأنباء حديثًا خبر إقدام حكومة حزب العمال في أستراليا على إلغاء قرار سابقتها (حكومة حزب المحافظين) القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، الذي كان انقيادًا أعمى للإدارة الأمريكية السابقة، وهنا قامت قيامة الصهيونية العالمية بكل إمكاناتها المالية والإعلامية، ومن أمامها أو خلفها حكومة الاحتلال وأقامت الدنيا وأقعدتها وملأتها نعيقا وزعيقاً، بدون جدوى، حيث صدر القرار الشجاع منتصرا لكل القيم الإنسانية النبيلة، وظاهرا على سياسات النفاق والتضليل والمتاجرة بقضايا الأمم ومصائرها في أسواق النخاسة الانتخابية، وبهذا يكون زعيم الحكومة العمالية أنتوني ألبانيزي قد أوفى بوعده الانتخابي، تعاونه في ذلك نائبته بني وانج التي كانت بمثابة الداعمة لهذا القرار.
وعلى وقع القرار الأسترالي قرأنا تصريحات سياسية متناقضة بل ومضحكة من طرف الذين اعترفوا بالقدس عاصمة للاحتلال من قبيل (إنهم يعترفون بالقدس عاصمة للكيان وأن سفاراتهم ستبقى هناك، ولكن الوضع النهائي للقدس يجب حله بين الجانبين!)، على رسلكم أيها الساسة فقد أعطيتم ما لا تملكون لمن لا حق له، فأين إذن ما تتشدقون به من شعارات جوفاء ولافتات براقة؟ وما هو موقفكم من الشرعية والقانون الدوليين وحقوق الإنسان؟ وعلى من تضحكون؟ وأين ستبيعون هذه البضاعة البائرة؟ وعلى الجانب الآخر رحبت دول العالم بالقرار الأسترالي واعتبرته ردا للأمور إلى نصابها وسياقها السياسي والتاريخي والشرعي، ومتسقًا مع الإجماع العالمي وقرارات الشرعية الدولية الصادرة منذ أمد بعيد، والقيم الإنسانية التي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة، ذلك أن أخطار التصرفات الأحادية الجانب على الأمن والسلم الدوليين لا تكاد تقع تحت حصر، ومصائر وحقوق الأمم والشعوب وقضاياها غير قابلة للتصرف من قبل كائن من كان.
إنَّ قضية فلسطين عامة والقدس خاصة لا تحتمل أنصاف الحلول أو البقاء في المنطقة الرمادية، والتلاعب بها من أجل مصالح سياسية ضيقة، وهي محل إجماع دولي، وحق المسلمين أصيل ثابت فيها، غير قابل للتصرف، وقد شملتها قرارات دولية كثيرة صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات، وتبقى قضية القدس تمثل مفتاح السلم والحرب في منطقة شديدة الأهمية والحساسية تتشابك فيها أو تتقاطع معها مصالح دول شتى، إنها قضية واضحة وضوع الشمس في رابعة النهار، لا ينكرها إلا رامد البصر مطمس البصيرة، وستظل في عنفوان شموخها تتحدى الطغاة المجرمين ويحج إلى بلاطها أصحاب الضمائر الحيَّة والفطرة السوية، لا يضيرها إعوجاج سياسات بعض الدول وزيغها، وسيظل الشعب الفلسطيني مؤمنا بعدالة قضيته، متمسكا بحقوقه المشروعة وفي مقدمتها القدس وفي القلب منها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي الطاهر الأمين، تفديها الأرواح والمهج، حيث قوافل الشهداء ترتقي تباعا إلى ربها راضية مرضية، لا يضيرهم من تخاذل أو تآمر أو ارتكس وانتكس، ضاربا على مر السنين أروع الأمثلة وأنصعها في التضحية والفداء، مبقيا جذوة الثورة على الظلم متقدة متوهجة في صدور الأجيال المتتالية، تصلي الاحتلال سعيرها وتحرقهم بلهيبها، غير متزحزحة عن مواقفها؛ بل تزداد جسارة وجرأة وتألقاً كلما زادت قسوة الاحتلال وبالغ في بطشه، وبقي اقتلاع الاحتلال من جذوره مسألة وقت لا أكثر. ونحن نرى بأم أعيننا اشتداد عود المقاومة وتراجع الاحتلال من الهجوم إلى الدفاع اليائس وهو في تقهقر مستمر، وقد حانت ساعة احتضاره، وأخذت إشارات النصر تلوح في الأفق وتقترب رويدا رويدا، ومعها تنشرح صدور الحق وأتباعه، ويزداد الباطل وأنصاره غمًّا وحسرة، فها هي صواريخ المُقاومة تصل تل أبيب وباقي مدن الكيان، تدك معاقلهم وحصونهم بضربات موجعة في الصميم، وتجبر نصف المستوطنين على الهرب إلى الملاجئ المحصنة مرتعدة فرائصهم راجفة قلوبهم زائغة أبصارهم من هول ما يشهدون، وأصبح توازن الرعب هو السائد اليوم وصاحب الكلمة الفصل والغد أدهى وأمر، وإنَّ غدًا لناظره قريب.