التمرد على الذات

 

مدرين المكتومية

نعيش كل لحظات الحياة بروح تفتقد عادة إلى الشغف والحماس، وكأننا نسير في خندق لا يُمكن لنا توقع مجريات الأحداث فيه ولا التكهن بموعد ومكان حدوثها، وبالتحديد إذا ما تعلق ذلك الخندق بذواتنا، وأقصدُ مسيرة الفرد منَّا مع تعاقب الأيام والسنين؛ إذ إننا نولد والأحلام الكبيرة تُداعب مخيلتنا، ونظن في سنوات عمرنا الأولى أن الآمال العريضة ستتحقق بكل سهولة دون عناء!!

لكن مع مرور الوقت نكتشف أننا مخطئون تمامًا، فتلك الفتاة التي كانت ذات الثانية عشرة من العمر، لم تعد كما كانت عندما بلغت الثانية والعشرين، والأمر كذلك في ثلاثينيات العمر، وكل ذلك يدفعنا للتساؤل: ما سبب حدوث ذلك؟ هل النضج الفكري ونمو الوعي وحسب؟ أم ثمَّة أسباب أخرى؟!

الحياة التي يعيشها الإنسان في بدايته الأولى، هي الحياة التي تشكلها عوامل عدة، كالبيئة والمجتمع والوضع الاقتصادي الذي تعيشه العائلة، وبمرور الوقت يتحول الأمر من رغبات وطموحات فرضها المحيط، إلى تمرد على الذات، وهنا أقصد رغبة الشخص بالاستقلالية وفرض رأيه وبحثه الدائم عن من يُؤيده، وما أن تنتهي تلك المرحلة، إلا ونجد أنفسنا تغيرنا كثيرا، يبدأ الخوف يخيم على خطواتنا، نبدأ بالتعرف على مفهوم جديد وهو "الحذر" الذي يجعلنا نتراجع عن الكثير من الخطوات التي لطالما رأيناها من منظور سهل ويسير، وتلي ذلك مرحلة أكثر صعوبة وهي أننا نبدأ رؤية كل ما كنَّا نُحارب من أجله لم يعد يستحق تلك الطاقة وهذا الاقتتال المعنوي، وأن تلك الأشياء التي رغبنا فيها ونحن نلعب بالدمى ما عادت تشغلنا، وأن الأشخاص الذين أعتقدنا أنهم سيدومون معنا طيلة العمر، لن نجدهم بيننا في لحظة ما غير متوقعة، وأن الحياة ليست سعادة مطلقة، ولا حزنًا دائمًا، وأننا قد نكون اليوم هنا، وغدًا في مكان آخر.. باختصار الحياة مليئة بالمفاجآت.

عندما يفكر الإنسان بالتغيير الذي تحدثه الأعوام في حياته، يظن أنه الوحيد الذي يعيش بهذا الكم من الهواجس، لكن الحقيقة أن لكل شخص منَّا حياة تختلف عن الآخر، وقصة لم تحدث إلا معه، وتفاصيل وإن تقاربت مع غيره إلا أن وقعها على نفسه مختلف، وردة الفعل اتجاهها أيضًا مختلفه، إننا نكبر بحجم السنين والمواقف، ولذلك هناك فرق كبير بيننا كأشخاص قد نكون بنفس العمر ونفس المهنة وربما بنفس التخصصات، هناك من نضج بصورة سريعة وهناك من لا يزال يرتكب حماقات، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أننا لا نعود كما نحن أبداً، نحن نصبح بمرور الزمن شخصيات مختلفة بسبب الطرق التي سلكناها، والرحلة الطويلة التي قطعناها، والأشخاص الذين التقيناهم أثناء عبورنا نحو سلالم العمر.

كل تلك التغيرات التي تطرأ على مراحل حياتنا، تجعلنا نقف عند منتصف العمر لنرى أننا فعلا لم نعد كما كنَّا، نصبح أكثر نضجاً، وأكثر حدة، تصبح لدينا القوة في الدفاع عن قراراتنا، يصبح الشخص الذي نهتم لأمره في العشرين ليس مهماً أن يكون معنا في رحلة الثلاثين، ويصبح الكم الهائل من الأشخاص الذين نطلق عليهم أصدقاء مجرد أرقام تتناقص بمرور الوقت وتصبح رغباتنا بأن نكون نسخة من غيرنا، مجرد وهم، لأننا عند مرحلة معينة، لا نريد أن تثبت لأحد شيئاً، ولا يعنينا كيف يرانا الآخر، يصبح البعض منا أكثر سلاما وأكثر تقبلا وانسجاما مع نفسه، ويصبح "هو" كل ما يريد أن يعثر عليه.

وختامًا.. ما زلتُ أرى أن الفرد منَّا ومع مرور الوقت، يرتفع سقف تطلعاته لكن في المقابل تضيق دائرة الخيارات، ويصبح أكثر معرفة وإدراكًا لما يريد ويتمنى، ويُمسي أشد تركيزًا في تحقيق أهدافه، وتترسخ في ذهنه فكرة أن يجد نفسه في زحام الحياة، حتى ولو كان من خلال التمرد على هذه النفس والضغط عليها، في مقابل بلوغ الغاية المنشودة، وقد يجد نفسه يسرق لحظات من العمر ليتقاسمها مع ذاته وحسب، ويتحول ما كان يراه بعين الضرورة، ليقبع بالتدريج في خانة الأمور الاعتيادية، ويُدرك أن المشكلات التي أخذت منه أيامًا في التفكير وربما ساعات من البكاء، لم تعد سوى مجرد حادثة لا تستحق الذكر!

فهل يعي الإنسان حقيقة نفسه ويتمرد على الأنماط التقليدية، أم يظل حبيس ذاته المُتعبة والمُنهكة خشية المجهول الذي سيظل غير معلوم لديه حتى وإن لم يتغير؟ لنرى!

الأكثر قراءة