د. محمد بن عوض المشيخي **
تابعنا خلال الأيام الماضية قرار تحالف "أوبك بلس" الذي يضم إلى جانب الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" 10 دول أخرى من خارج المنظمة؛ أهمها روسيا والمكسيك وأذربيجان وسلطنة عُمان؛ إذ قرر هذا التحالف- الذي يزداد قوة ورسوخًا يومًا بعد يوم- تخفيض الإنتاج بحوالي مليوني برميل يوميًا، وذلك لامتصاص الفائض من المعروض النفطي في الأسواق العالمية؛ بهدف المحافظة على سقف الأسعار ما بين 80 إلى 100 دولار للبرميل الواحد على أقل تقدير.
وعلى الرغم من أن قرار تخفيض الإنتاج اتُخذ بالإجماع من أعضاء التحالف- الذي يضم 23 دولة وهدفه الأساسي اقتصادي بحت بعيدًا عن السياسية- إلا أن الإدارة الأمريكية ردت بالتهديد والوعيد ولغة الإملاءات لحلفائها في دول الخليج، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية التي زارها الرئيس الأمريكي جو بايدن في منتصف يوليو الماضي؛ حيث طلب من القيادة السعودية في ذلك الوقت زيادة الإنتاج بهدف إغراق بورصات النفط بمزيد من الإنتاج ولو على حساب اقتصاديات دول المنطقة. لكن يبدو أنَّه غاب عن فخامة الرئيس، ارتباط ارتفاع أسعار النفط بنجاح الخطط الاستراتيجية للعديد من الدول الخليجية مثل رؤية "السعودية 2030" ورؤية "عمان 2040" ورؤية "قطر 2030"، وغيرها من الخطط التي تعتمد على النفط في تنفيذها لتحقيق رفاهية أبناء الخليج، حيث يعد الدخل من النفط منذ ستينيات القرن الماضي العمود الفقري لتمويل المشاريع الإنمائية في هذه الدول.
لا شك أن أهداف الإدارة الأمريكية من ذلك هي كسب ود الناخبين الذين سيذهبون لصناديق الاقتراع لاختيار أعضاء مجلس النواب والشيوخ في نوفمبر المقبل على أمل التصويت للحزب الديمقراطي الحاكم، وذلك في حالة توفر وقود سيارات رخيص في الأسواق الأمريكية وفي متناول المواطن الأمريكي! لقد أدركت دول مجلس التعاون الأنانية وغطرسة الحكومات الأمريكية المتعاقبة على مدار التاريخ؛ إذ أصدرت حكومات الخليج بيانات رسمية توضح فيها المبرارات الحقيقية لتلك القرارات التي يحكمها التصويت والتوافق بين أعضاء "أوبك بلس" وقبل ذلك كله مصالح الدول الأعضاء، بينما كان موقف المملكة العربية السعودية أكثر صراحة وشجاعة وصلابة؛ إذ رفضت وزارة الخارجية السعودية تصريحات الحكومة الأمريكية جملة وتفصيلًا، موضحة أن قرارات المملكة سيادية ولا يحق لأي جهة التدخل فيها.
يجب أن يُدرك الجميع أن الدول الكبرى لا تهمها إلا مصالحها بالدرجة الأولى، وقد أثبتت الأيام أن هذه الدول تُدير ظهرها لأصدقائها وحلفائها عند الشدائد؛ فهذه الدول لا تستطيع أن تحمي الدول بشكل دائم؛ بل الذي يحمي الدول تمسكها بحقوق أمتها وثوابتها، وإقامة حكم عادل يُعبِّر عن آراء المواطنين وطموحاتهم نحو الحرية وإحقاق الحق والعدل.. ولعل الجميع يتذكر كيف تخلت أمريكا عن حليفها شاه إيران خلال الثورة الشعبية التي اقتلعت جذور تلك الإمبراطورية العظيمة؛ حيث رفضت أمريكا استقباله عند هروبه من طهران تحت جنح الظلام حتى كلاجئ سياسي.
والسؤال المطروح: ماذا قدمت أمريكا لنا في الخليج عندما انخفض سعر النفط قبل بضع سنين وعانت شعوب المنطقة من المشاكل الاقتصادية والمديونيات الثقيلة؟
حقيقة الأمر لم تُقدِّم لنا الدول الكبرى وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية إلا الابتزاز لشعوب المنطقة وقادتها وتهميشها لقضايا العرب الكبرى مثل قضية فلسطين ووقوفها مع الصهاينة بشكل أعمى؛ رغم ما تحتاجه دائمًا منا؛ مثل: الطاقة واستثمار أموالنا في السندات والبنوك الغربية التي قد لا تعود لأصحابها يومًا ما، إضافة لاستنزاف أموال شعوب المنطقة التي تُقدَّر سنويًا بمئات المليارات من الدولارات، في شراء طائرات حربية ومعدات عسكرية من شركاتها، ولكن هذه الترسانات تخذلنا عندما نحتاج لاستخدامها للدفاع عن النفس.
يبدو لي أن نفوذ أمريكا وقوتها في المنطقة العربية قد تعرض لتراجع وتمرد من أصدقاء الأمس، وذلك لكونها فاقدة الثقة بالحكام والشعوب على حد سواء، وهذا ليس بسبب ظهور قطب جديد منافس لها في الساحة الدولية مثل الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي، كما تزعم بعض النخب العربية ذات التوجه القومي والاشتراكي، فحقيقة الأمر أن أمريكا اليوم أكثر قوة من أي وقت مضى؛ فقد نجحت الحكومة الأمريكية في جمع شمل الحلفاء تحت قيادتها مثل كندا وأستراليا وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي واليابان، وذلك منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فبراير الماضي، ولذا لم يحن بعد انهيار أمريكا كما يعتقد أعداؤها.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري