ما بعد الخمسين

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

حرفيًا أحيانًا ينتابنا إحساس، أننا بالكاد على قيد الحياة، نتنفس ونأكل ونشرب، وكلّ شيء بعد ذلك، لا معنى له، فنرتبك ونخاف، إذا لم نجد ما يُبقينا متمسكين بالحياة. والمواقف الصعبة قد تأخذنا إلى زوايا مُظلمة، نفقد الأمل ويُصيبنا الإحباط، أو نشعر بالظلم أو الاضطهاد، مما يدفعنا للتساؤل: هل حقًا تستحق الحياة كل ذلك العناء؟

ليست هناك أسباب واضحة لفقدان معنى الحياة، غير الفراغ أو الشعور بفقد عزيز، أو بفقدان المكانة الاجتماعية، أو الوظيفية أو كنَّا في منتصف مشوارنا في الحياة .يمرّ البعض بأزمة مؤقتة تسمى بأزمة مُنتصف العمر، فيدخلون في دوّامة من الاكتئاب، والملل والقلق من كل شيء والخوف من المجهول دون أية أسباب واضحة. وأزمة منتصف العمر، مرحلة عمرية يشعر فيها الإنسان أنَّه تائه، وحياته لا قيمة لها ولا يرى أية فائدة من الاستمرار في الروتين اليومي، لأنه مجرد تكرار، ولا جدوى من الخُطط لأنها لن تنجح، كما كانت في السابق. إنها مرحلة انتقالية يعيشها البعض تحدث له اضطرابات، وتظهر عليه أعراض لأنه يمر بمرحلة التقييم لما تمَّ إنجازه، واتخاذ قرارات فيما يخص المرحلة المقبلة. وتعدّ مرحلة إنكار لدى البعض، ورغبة في العودة إلى الماضي، إلى مرحلة الصبا والحيوية والشباب.. هي مرحلة يفقد فيها البعض القدرة على التحكم بدفّة حياته الحاضرة والقادمة.. هي مرحلة الشعور بالملل يعتقد الإنسان فيها أنه على دراية بالنهايات المتوقّعة، لكل الأمور والمواقف، يغار من نجاحات الغير ويُقارن إنجازاته بما حققه الآخرون، فيفقد المتعة في تحقيق نجاحات جديدة؛ فالحياة بالنسبة له أصبحت قصيرة، والغد غير مضمون.

يقول الباحثون إنَّ أزمة منتصف العمر لها تأثيرات مختلفة على الرجل والمرأة وهي تعد فترة انتقال في الهوية والثقة بالنفس والإنجاز، فعند الرجال ترتبط المرحلة بالعمل والمسائل المُتعلقة به، أما عند النساء فإنَّ المرحلة ترتبط بتقييمها لنفسها وأدوارها وعلاقاتها مع الآخرين. وأكثر الفئات التي تظهر عليها اضطرابات الأزمة، هم من مرّوا في حياتهم بمواقف وأحداث صعبة.

يقول الكاتب الأمريكي بوب كيرلي إنِّه قد تعلم عدة دروس بعد بلوغه سن الخمسين وإن التقدم في العمر مسألة حتمية لا مفر منها، ويضيف كيرلي: "يمكنك أن تفعل ما تشاء إن حافظت على صحتك وعلى لياقتك البدنية وأن تعيش ببساطة، وأهم من ذلك أن تتخلّص من الشخصيات السلبية في حياتك فلا داعي للاستماع للآراء السلبية والعيش في معاناة".

بعد الخمسين، فرصة لاكتشاف ذواتنا الحقيقية وقدراتنا التي لم تكتشف، فالحياة لم تنتهِ بعد، فكم من عالم أو فنان حقّق النجاح بعد عقده السادس!

يُقال إنَّ سنّ الأربعين شيخوخة الشباب، والخمسين شباب الشيخوخة، وهناك بعض الأمثلة على صدق هذه المقولة؛ فمن النماذج الناجحة التي لم ترَ في العمر عائقًا للتقدّم في الحياة أنتوني برجيز الذي اشتغل بالأدب والتأليف كما كان يحلم، عندما علم بدنو أجله نظرًا لإصابته بمرض عضال، فقد أبلغه الأطباء أنَّ لديه عام واحد فقط كي يعيش!! وخلال العام استطاع أن يكتب 5 قصص ونصف قصة، ولم يمت في عقده الرابع؛ بل أكمل حتى الستين، وكان المرض سببًا في أن يعيد اكتشاف مواهبه.

أما جوزيه سارماجو وهو أول كاتب باللغة البرتغالية يفوز بجائزة نوبل للآداب، فقد بدأ عمله الوظيفي بعد سن الأربعين، واشتغل في الصحافة بعد أن كان مكانيكيًا وحدادًا، وتفرّغ للأدب بعد طرده من عمله، وحاز على جائزة نوبل على روايته "العمى"، وكان قد بلغ الستين!

وتوصل الياباني موموفوكو إلى الأندومي (الشعيرية سريعة التحضير) في مصنعه الصغير بالمنزل، وهو في العقد السادس من عمره، بعد كبوات كثيرة في التجارة، نتيجة الظروف الاستثنائية التي عاشها زمن الحروب العالمية.

وأيضًا هنري فورد مبتكر سيارات فورد الأمريكية، وصاحب فكرة خطوط الإنتاج في قطاع السيارات، لم يحقق الشهرة والنجاح إلا بعد عمر الخمسين.

وهناك أسماء أخرى كثيرة حققت النجاحات بعد سن الخمسين؛ فكلّ مرحلة عمرية لها جمالياتها ومميزاتها لذلك، فمن الضروري في هذه المرحلة أن يحافظ الإنسان على صحته الجسدية والنفسية باتباع نمط حياة صحي، وأن يدير الإجهاد بممارسة التأمل، وتمارين التنفس العميق؛ ليستشعر جمالية المرحلة العمرية، والتي تعد من المراحل الفريدة، وليس كما يشاع أنها النهاية، وثقافة المجتمع السلبية التي ترى في كلّ من تجاوز العقد الثالث في العد التنازلي من الحياة، سببًا في استسلام الكثيرين وتدهور صحتهم النفسية والجسدية .

تظل مشاعرنا الحقيقية هي التي تقودنا، فنحن بشر كتلة من المشاعر المتناقضة، نتأثر بكل ما يحدث حولنا من أحداث، ونتفاعل معها حتى إن كانت مشاعر مزيفة نشاهدها بأداء ممثل بارع في فيلم سينمائي.

وبعد دراسات للمراحل المختلفة في عمر الإنسان، وجد الباحثون أن الإنسان في العقدين الخامس والسادس يُصبح أكثر قدرة على الإدراك العاطفي وفهم مشاعر الآخرين. ولا يكفي أن نكون فقط على قيد الحياة، لا نستمتع باللحظات الحلوة ولا نتعلم من اللحظات السيئة؛ فالحياة تستحق العيش بكافة حواسنا، نتفاعل مع الأحداث ونحن مدركون للحظة، وحاضرون بحواسنا في الحاضر لا في الماضي ولا في المستقبل.

يقول الفيلسوف الصيني لاو تزه: "إذا كنت مكتئبًا فأنت تعيش في الماضي، وإذا كنت قلقًا فأنت تعيش في المُستقبل، وإذا كنت تحس بالسلام فأنت تعيش في الحاضر".

كل إنسان له أسباب مختلفة يعيش من أجلها؛ فهناك من يعيش لابنائه أو لوظيفته أو لعمل الخير أو لنفسه، وغيرها الكثير. وبعد الخمسين قد يشعر الإنسان بالعزلة وضياع المعنى، هذه العزلة فرصة للبحث عمن يشبهونك، وبناء علاقات اجتماعية جديدة، وتقوية علاقات قائمة؛ فالشعور بالحب يُساعد على البقاء والتشبث بالحياة.

من الجميل أن نتمسك بالحياة ونحن نعيش الحاضر مستمتعين باللحظة الجميلة، حتى إن كنَّا نملك القليل؛ فهناك من لا يملك شيئًا مما نملك، لكنهم يشعرون بالامتنان والرضا.. يقول الروائي سومرست هوم: "الحياة عندي بدأت في الثمانين. معها شعرت بأنني ما أزال ذلك الشاب الذي خرج إلى نفسه في موج البحر".