د. عبدالله باحجاج
كنت أفكر في الملف الذي يُعبِّر عنه العنوان أعلاه منذ سبتمبر 2021، وهو تاريخ نسخ التجربة التعليمية البريطانية في بلادنا؛ حيث كان يشغل اهتماماتي من أعماق وطنية خالصة، ومن منظور مستقبلي في ضوء واقع تعلمينا العام ومشاكله وإشكالياته، ومن ثم مخرجاته، مقارنة بجودة التعليم الأجنبي الوافد إلينا والذي يتربع الآن على قمته التعليم البريطاني، وتتعمق انشغالاتي في مستقبل مخرجاته في مجالين أساسيين، هما، حظوظ مخرجات تعليمنا العام في ظل تنافسية مخرجات التعليم الأجنبي البريطاني، والآخر، تأسيس ذهنيات جديدة بأدوات تعليمية عابرة لحدودنا ستتعايش مع ذهنيات تبنى بأدوات تعليمية محلية خالصة ومنذ عدة عقود.
وهنا يظهر لنا المشهد بثنائية حادة ومتعارضة، وقد تكون متصارعة، ويمكن تصوير أدواتهما التأسيسية في المشهدين التاليين:
- تعليم بريطاني أجنبي مدفوع الثمن، منهجًا وأطرًا وكوادر، تستفيد منه القلة.
- تعليم عُماني مجاني، تستفيد منه الأغلبية.
وقد بدأ التوجه نحو نسخ التجربة التعليمية الأجنبية عبر افتتاح فرع لمدرستين بريطانيتين عريقتين بمقررات تعليمية وأطر تدريسية بريطانية خالصة، وبدأتا العمل من العام الدراسي 2021، وتستقبل من سن 3- 18 سنة بهدف مُعلن وهو صناعة قادة عالميين للمستقبل بخبرات عالمية تتجاوز 100 سنة خبرة. وتوفر المدرستان بيئة لجميع الأطفال من أجل- وفق التصريحات الرسمية- أن يتحلوا بالفهم والتسامح مع الآخرين، علاوة على تطوير الثقة بالنفس للتعبير عن الأفكار والآراء، ومن ثم تمكينهم ليكونوا قادة عالميين في المستقبل- كما ورد في تصريح رسمي- وتوفر وسائل تعليمية متقدمة، ووسائل تأسيسية منفتحة، منها مختبرات العلوم عالية التقنية، وورش عمل لتكنولوجيا التصميم، وأستوديوهات للتدريب على الفنون والموسيقى وفنون الأداء ومسبحين نصف أولمبيين، ومسابح للتعليم، ومناطق رياضية خارجية واسعة، وملاعب كرة قدم، وملاعب هوكي ورجبي وكريكيت.
وهنا ينبغي أن تطرح التساؤلات التالية: أولًا: من سيكون لها نصيب الأسد في المقاعد الجامعية الحكومية المُعتبرة، الداخلية والخارجية، هل مخرجات تعليمنا العام المجانية أم مخرجات المدارس الأجنبية البريطانية المدفوعة الثمن في بلادنا؟ ثانيًا: من سيكون له الوظائف العليا والقيادية في البلاد مستقبلًا؟ ثالثًا: ما مستقبل الأجور للجيل الجديد في ظل مخرجات النظامين التعليميين سالفي الذكر؟
سأكتفي بهذه التساؤلات رغم وجود أخرى لا تقل أهمية، والإجابة عليها، لن تحتاج لعبقري لاستشرافها، بل إن التوصل إليها- أي تلكم التساؤلات- هو المدخل للإجابة التلقائية عليها، ونختصرها في أن المنافسة على المقاعد الحكومية لن تكون عادلة، كما إن مخرجات هذه المدارس إضافة للمدارس الأجنبية الأخرى في بلادنا سيكون حظوظها أكبر في المناصب والوظائف المعتبرة، وحتى لو افترضنا جدلًا أنَّ مخرجات المدارس البريطانية لن تنافس على المقاعد الجامعية الحكومية لمقدرة الكثير من أولياء أمورهم المالية على ابتعاثهم على نفقتهم الخاصة لأرقى الجامعات، فإن الهاجس يظل قائمًا في مسألتين هما: استحواذهم على الوظائف القيادية والعليا مستقبلًا، وكذلك صناعة ذهنية معاصرة منفتحة بانفتاح المقررات والأطر والكوادر التي تؤسسها من سن 3- 18 سنة.
وقد يقول قائل إن فكر نسخ أرقى المدارس البريطانية في بلادنا تتجلى أهميته في مسألتين هما: 1) فتح فروع لها في بلادنا عوضاً عن أن يذهب أبناء الأغنياء وكبار المسؤولين إلى بلدانها. 2) الاستثمار الناجح والمضمون فيها.
قد تقدم هاتان الحجتان لتفنيد ما نطرحه هنا، والمُفارقة هنا، أنه حتى الكثير من "المستريحين" الذين لا يرتقون إلى ثروات الأغنياء ومواقع كبار المسؤولين، البعض منهم قد سجل أولادهم في هذه المدارس رغم استنزافها لموارد مالية من المنافع التي حصلوا عليها في الحقبة السياسية السابقة؛ لتأهيل أبنائهم للمناصب والمواقع الوظيفية التي تنتظر مخرجات هذه المدارس، والكثير منهم يُخطط للتسجيل إذا ما تمكن من الحصول على مقاعد. من هنا يتسع مستقبل قاعدة الأقلية في استحواذها على المناصب والوظائف المعتبرة والعالية الدخل، عوضًا عن تمرير بعضها لمخرجات التعليم العام المجاني.
وهنا يظهر المشهد سياسيًا، وكأن أولياء أمور طلبة هذه المدارس يحاولون من خلالها نسخ مراكزهم ومواقعهم مستقبلًا لأبنائهم، بينما تصنع مدارسنا العمانية المجانية مخرجات إما مصيرها يكون إلى التلمذة المهنية التي تنتج أنصاف المهنيين أو وظائف ذات عائد مالي محدود.. إنها قضية احتكار المناصب والمواقع، ولنقل بعبارة أخرى، أن وراءها فكر توريثي للأبناء.
ومن يتأسس على نظام تعليمي أجنبي سواء داخل الوطن أو خارجه، ويكون ارتباطنا به تاريخيًا على المستويات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية على المستويات الفوقية، سيتمكن من تحطيم أية اختبارات وظيفية إذا ما اعتمدت كوسيلة للعدالة والمساواة في استحقاق الحقوق. أما بدونها، فإن وظائفها مضمونة كذلك بحكم التأسيس التعليمي والفكري وتاريخ أسرها في مختلف الحقول السياسية والاقتصادية والمالية في البلاد.
نحن هنا لسنا ضد هذا النوع من التعليم المدفوع الثمن، ولا ضد استثمار أحد صناديق التقاعد في بلادنا فيه، وإنما مع تبنيه في ظل بقاء واقعنا التعليمي العام مختلًا باختلالاته المتراكمة، ويصنع مخرجات غير قادرة على التنافسية، وضد تصوير المدارس البريطانية في بلادنا على أنها تنسجم مع رؤية "عُمان 2040"، ومع الاستراتيجية التعليمية في البلاد، فهل هذا يعني أن التعليم العام المجاني سيكون خارجًا عن الرؤية والاستراتيجية، وستعبِّر عنها المدارس الأجنبية وتحديدًا البريطانية؟!
حتى الآن، فإنَّ الثنائية التعليمية المتعارضة في كل شيء هي الغالبة، وما لم نسارع في حلها، فإننا سنشهد ما أشرنا إليه من اختلالات، والأخطر ولادة ذهنية جديدة تنتجها مثل هذه المدارس، مقابل الاستمرار في صناعة الذهنيات التي تنتجها المدارس الحكومية، والأخطر تزامنها مع مرحلة الضغوط الاجتماعية المتعددة في صورها، وبروز ظواهر خطيرة كالمخدرات وانتشار بعض الأمراض المستعصية كالسرطان حتى في الأطفال وبصورة مقلقة.. والقائمة طويلة. وهذه نماذج تثقل الوضع الاجتماعي، ولن تُمكِّن أولياء أمور التعليم المجاني من تعليم أبنائهم في الجامعات على نفقتهم الخاصة.
نضع هذا الملف فوق الطاولة السياسية بصورة عاجلة، فهو يلامس أولوية من أهم أولويات البلاد المستقبلية، وهي أولوية الإنسان والمجتمع في عصر الثورة التكنولوجية، ومسيرنا الوطني الآن في مرحلة انتقالية تؤسس للمرحلة الدائمة، لذلك يقع على عاتقنا تحليل كل مسارات المرحلة الانتقالية من مختلف السيناريوهات، مساهمةً في إثراء النقاشات، وضخ رؤى مختلفة من زوايا أخرى، قد لا تقدم في مبررات وحجج التحولات والتطورات، مع التذكير بأن كل تحليلاتنا للمسارات والتحولات تنصب على التساؤل المرجعي لكل مقالاتنا التحليلية والاستقصائية، وهو: أي مجتمع ينبغي إعادة صناعته للمرحلة الدائمة؟ وهذا المقال جزءٌ من هذا الجهد الوطني حتى يمكن استدراك سلبيات المسارات، والتركيز على جوانبها الإيجابية.