"كب كيك" جميعة

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

في أواخر الستينيات من القرن الماضي كنت أذهب بعد كل فترة لزيارة خالتي في صلالة الغربية، للإقامة معها ليومين في إجازة المدرسة الأهلية التي كنت أدرس فيها كتابة الخط وقراءة القرآن الكريم والحساب، وكانت قريبة من بيتنا في الحافة، ورغم أن المسافة بين الحافة وصلالة الغربية لا تتجاوز عدة كيلومترات، إلا أنك إذا لم تخترق حقول المزارع (المقاييف) الممتدة من غرب الحافة إلى صلالة الوسطى، لتصل إلى الشارع الذي يوصلك إلى صلالة الغربية وسط المساكن، ستضطر إلى سلوك طرق أطول، وطبعًا ركوب حماري (البطران) إلى هناك فيه بعض المشقة، فلا توجد حظيرة في منزل الخالة إضافة إلى صعوبة توفير طعامه وشرابه والاعتناء به، فلا بُد من اجتياز المسافة ذهابًا وإيابًا مشيًا على الأقدام رغم المشقة وليونة العود.

من الأشياء التي كانت محببة لي هناك خصوصا في شهر رمضان صلاة التراويح وحياة المساجد عمومًا، فمسجد الشيخ أحمد بن عفيف الذي يتوسط مقبرة بن عفيف الشهيرة آخر مقبرة في صلالة والرئيسية منذ مئات سنين؛ حيث إنَّ المسجد بُني في سنة 650 هجرية، ويوجد به ذلك الضريح الدائري الأبيض المميز بتصميمه (القبة  والسلسلة)، وكان قريبًا من بيت الخالة، وقد كنت انتظر المجموعة التي تذهب لهذا المسجد لصلاة التراويح ويحملون معهم ضوء "التريك"، والذي يعد أول إضاءة "فلورسنت" ناصعة عرفناها، وتختلف عن الفانوس والمسرجة ذات الإضاءة الصفراء الخافتة، والتي كنَّا نستعملها وكنت أشعر بشعور غريب مختلط لا أعرف له كُنهًا حينها. فأول ما ندخل الطريق الضيق جدًا وسط القبور إلى المسجد ويبدد ضوء "التريك" تلك الظلمة الدامسة التي تلف المقبرة، تختلط مشاعري بين رهبة القبور والموت والظلمة وضوء "التريك" الذي يبددها بنوره حتى ندخل المسجد، ويُعلِق حامل "التريك" هذا التريك في السلسلة المتدلية في سقف المسجد في المنتصف، مع إنارة بقية الفوانيس العادية في المسجد حوله.

صلاة التراويح نور وبهجة وتأمل، والكل يجتهد ليرتدي ثيابًا نظيفة جميلة قدر الإمكان؛ ليجملها وتضفي ترانيم الأدعية "المشلات" بين كل ركعتي تراويح جلالًا ومهابة ليتسرب كل ذلك إلى داخل نفوس المصلين فيضيئها، والأهم من ذلك كله الرجوع إلى المنازل بعد انقضاء الصلاة صادحين بالشلات والترانيم والأدعية الدينية على ضوء التريك المبهر، حتى يصِلون إلى قرب باب خالتي، فانفصل عنهم وادخل لأستلقي على السرير. وأُعيد تخيل هذه الشحنة الروحية التي عشتها حتى أغفو؛ لتوقظني خالتي من جديد على وجبة سحور لذيذ؛ سواء كانت قراصا أو عطرية أو فندلا مقصصا، وكلها بمرقة حليب النارجيل أو كعكة في لبنٍ، كوجبةٍ سحور خفيفة ومغذية لا تُثقل المعدة وتعين على الصيام إلى مغرب اليوم التالي.

وفي جامع بامزروع بصلالة الغربية أيام كان مميزًا بتصميمه الظفاري القديم الأنيق ومئذنته المرتفعة، قبل أن يُهدم بالكامل كما هو الحال مع جامع "الشيخ علي" في الحافة وجامع صلالة الوسطى؛ أكبر وأهم مساجد ظفار كلها، وأصبحت اليوم بلا  هوية واضحة. كان جامع بامزروع يعمر بمرتاديه خصوصًا الشباب ما بين صلاتي العصر والمغرب، يتسابقون للصعود إلى منارته العالية مع بعض الترانيم والأدعية حتى الأذان.

لا أنسى "كيك جميعة"، إذ لم يكن بصلالة كلها مخابز؛ حيث يخبز الكعك الظفاري بنوعيه الثخين والرقيق (خبز القالب) في تنانير أرضية في معظم البيوت، وبينها أحيانًا تشترك ربات البيوت في خبز الدقيق فيه. أما "كيك جميعة" فقد كان مميزا وحصريا على بيت جميعه، التي يبدو أنها قد حصلت على فرن مستعمل لهذا النوع من الكيك من مطابخ القاعدة الإنجليزية بصلالة (المحطة) وكنت أحرص على شرائه كلما ذهبت لزيارة خالتي، وللأمانة إنه كان ألذ وأطعم وأطيب نكهة من كيك مخابزنا الحالية- رحمة الله على السيدة الفاضلة جميعة- أذاقتنا الكيك قبل مخابز العالم كله.

على الله عودة الماضي مهما كانت العودة.

الأكثر قراءة