التجارة المستترة.. إلى أين؟

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تعاني سلطنة عُمان- كغيرها من الدول الخليجية- مما يعرف ب"التجارة المستترة"، وهي ظاهرة غير صحية في تركيبة القطاع الخاص، بدأت مع بداية الطفرة النفطية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، والحاجات الملحة للإسراع في بناء مقومات الدولة الحديثة والبنية الأساسية غير الموجودة، وعدم توافر الأعداد والخبرات المحلية للقيام بها.

ونمت هذه الظاهرة مع نمو هذه الدول وما ساعد على تفاقمها إتاحة الفرصة للمواطنين للجمع بين الحسنيين العمل بالحكومة ومُمارسة الأعمال الخاصة (السياسة والتجارة)؛ حيث يمكن للمواطنين العمل في القطاعات الرسمية والاستفادة من الفرص المتاحة في القطاع الخاص من خلال تمكين الغير (عبر التجارة المستترة) مقابل عوائد مادية. ولهذا يرى المختصون أن نمو الاقتصاد في دول الخليج لم يصاحبه نمو في تركيبة وقدرات شركات القطاع الخاص التي ظلت مفتتة في وحدات صغيرة معتمدة على المشتريات والمناقصات الحكومية وتلبية الطلب المحلي، من خلال التجارة والاستيراد للسلع والخدمات، وتفتقر إلى الإمكانات المالية الكبيرة والكوادر الوطنية القادرة على قيادة المشاريع بطريقة فعالة. وهناك وجهة نظر أخرى تقول إن التجارة المستترة محدودة، لكن كثرة القوانين والبيروقراطية للحصول على العمالة الوافدة دفع بالأفراد والشركات للتحايل بفتح عدد كبير من السجلات التجارية للحصول على عمالة وافدة؛ سواء لأعمالهم أو يقومون بتسريحهم ليعملوا ما يشاءون مقابل مبلغ رمزي يحصل عليه المواطن بشكل شهري أو سنوي يعينه على تدبير أموره. وعند رفع التقارير للقيادات، يتم طرح الموضوع على أنه تجارة مستترة، في حين أنه ما هو إلا وسيلة للتعامل مع بيئة الأعمال والبيروقراطية المفرطة.

وأيًا ما كان الأمر، وبعد 5 عقود من مسيرة البناء وتغيُّر حاجات التنمية وتزايد أعداد الباحثين عن عمل وضبابية المشهد النفطي ووصول دول الخليج إلى جاهزية كبيرة تستوجب وجود قطاع خاص بأيدٍ وإدارة وطنية قادرة على تحقيق التحولات المنشودة في المرحلة المقبلة، بحيث يلعب الدور المحوري في توفير فرص عمل للمواطنين وزيادة الاستثمار والإنتاج والتصنيع المحلي وتعزيز إيرادات الميزانية العامة. وهذا يستوجب "تحول بارادايميّ" في تركيبة القطاع الخاص والعمل على محاربة والقضاء على التجارة المستترة. وتُعرف التجارة المستترة في الأدبيات على أنها تمكين شخص غير مواطن من ممارسة أعمال وأنشطة تجارية لحسابه وهو غير مرخص له بذلك، من خلال استخدام التراخيص والسجل التجاري والموافقات الصادرة للمتستر؛ سواء أكان شخصا طبيعيا أو اعتباريا (شركة).

وهناك العديد من المؤشرات قد تبرهن على انتشار التجارة المستترة في السلطنة بشكل واسع؛ حيث تُعد تحويلات العاملين في السلطنة كنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي الأكبر بين دول الخليج؛ حيث تصل في بعض السنوات إلى 4 مليارات ريال عماني. كما ترصد المؤشرات الكمية والنوعية في تركيبة القطاع الخاص، وجود عدد من التشوهات؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد الشركات المسجلة في السلطنة بلغ 324 ألف شركة في نهاية عام 2020، إلا أنه ما زالت شركات الفرد الواحد تستحوذ على النصيب الأكبر من السجلات التجارية، وتمثل المؤسسات الصغرى والصغيرة الغالبية العظمى من منشآت القطاع الخاص؛ حيث تمثل ما نسبته 98%، تليها المؤسسات المتوسطة بنسبة 1.2%، بينما المنشآت الكبيرة يصل عددها إلى 968 منشأة بنسبة قليلة تبلغ 0.33%. وبالنسبة لرفد الميزانية العامة، تُشير تحليلات المالية العامة بالسلطنة إلى أن مساهمة القطاع الخاص في دعم الميزانية العامة بالإيرادات محدودٌ؛ حيث بلغت مساهمة الإيرادات غير النفطية 26% في عام 2019؛ منها 12% إيرادات ضريبية مدفوعة من الشركات التابعة للقطاعين العام والخاص. أما مساهمة شركات القطاع الخاص في التوظيف، فنجد أنه في عام 2019 كان 80% من العاملين في القطاع الخاص من العمالة الوافدة التي تعاني في معظمها من تدني مستوى المهارة. ومن المأخوذ على تركيبة شركات القطاع الخاص وجود عدد كبير جدًا من المنشآت بدون وجود عمالة وطنية فيها؛ الأمر الذي يستدعي إجراء دراسة معمّقة حول أسباب هذه الظاهرة وكيفية التعامل معها.

ولا يخفى على أحد أن هناك العديد من الآثار السلبية للتجارة المستترة، فعلى المستوى الاستراتيجي تتسبب في إفشال سياسات الاستقرار الاقتصادي في الاقتصاد، وتشوّه المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالأسعار ومعدلات الباحثين عن عمل ومعدلات النمو الاقتصادي. وهناك تأثير سلبي كبير على فعّالية السياسة النقدية وتوازن ميزان المدفوعات؛ فزيادة الأنشطة المختلفة في إطار معاملات التستر التجاري، تؤدي إلى زيادة الطلب على النقود، ويصبح أحد الدوافع الأساسية للاحتفاظ بها، وهو ما سيؤثر بالتأكيد على فعالية السياسة النقدية؛ فأغلب الأرباح الناجمة عن التستر تُحوّل خارج الاقتصاد، مما يؤدي إلى إضعاف الكفاءة الاقتصادية، ومضاعفة الإنفاق المحلي، والإخلال بتوزيع الموارد، وخلق منافسة غير مشروعة مع المواطنين، وكذلك زيادة حالات الغش التجاري، إضافة إلى هجرة وخروج رأس المال خارج الاقتصاد الوطني. وفي أغلب الأحيان، ينتهج التاجر الوافد أقصى عمليات تعظيم الأرباح على حساب المستهلك. وفي الجانب الاجتماعي، فإن التجارة المستترة تؤدي إلى زيادة أعداد الباحثين عن عمل من المواطنين، لاقتصار التوظيف في مشروعات التستر على العمالة الأجنبية، مما يُضعف فرص التوظيف للعمالة المحلية، وتزايد أعداد العمالة الوافدة، ومزاحمة المواطنين في أعمالهم بصورة غير مشروعة، واحتكار الوافدين لبعض الأنشطة التجارية، مما يؤدي إلى زيادة أعباء الإنفاق على المرافق الخدمية والصحية والتعليمية بسبب وجود أعداد كبيرة من الوافدين في البلاد.

وهناك العديد من التجارب الدولية في كيفية التعامل مع هذا الملف الاستراتيجي، نورد منها ما قامت به الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية؛ للحد من الظاهرة؛ حيث قامت حكومة المملكة بإقرار برنامج وطني لمكافحة التستر التجاري، وهو برنامج أطلقته وزارة التجارة والاستثمار في السعودية، ضمن برنامج التحول الوطني، للقضاء على التستر التجاري والحد من انتشار الغش التجاري، وتشترك عدة جهات حكومية مع الوزارة في تطبيق البرنامج. ومن أبرز آليات البرنامج السعودي لمكافحة التستر التجاري: مراقبة مصادر الأموال، من خلال الحسابات البنكية للمنشأة التجارية، وفرض التعامل بالفواتير، وتقليل الحوالات التجارية، وتقديم معلومات دقيقة عن الممارسات التجارية المخالفة، ورفع مستوى الخدمات المقدمة للمستهلك، وتوحيد جهود الجهات الحكومية كافة في القضاء على التستر التجاري، وتحقيق منافسة عادلة في السوق التجاري السعودي، وتوفير وظائف للمواطنين. ويشتمل نظام مكافحة التستر في السعودية، على آليات تسهم في التضييق على منابع التستر والقضاء على اقتصاد الظل؛ حيث أقر النظام عقوبات مغلظة تصل إلى السجن 5 سنوات، وغرامة مالية تصل إلى 5 ملايين ريال سعودي، وحجز ومصادرة الأموال غير المشروعة لمرتكبي الجريمة، بعد صدور أحكام قضائية نهائية في حقهم، وإغلاق المنشأة وتصفية النشاط وشطب السجل التجاري ومنع المُدان من ممارسة أي نشاط اقتصادي لمدة 5 سنوات، وإبعاد المتستر عليهم عن المملكة وعدم السماح لهم بالعودة إليها للعمل.

وختامًا نقول.. إن فرض نموذج التنمية القائم على الحكومة والايرادات النفطية يتسم بخصائص معينة للقطاع الخاص وهي ليست حصرًا على السلطنة وإنما تعاني منها معظم الدول النفطية. إلّا أن تحديات المرحلة تستوجب من القطاع الخاص ترتيب أوراقه، بحيث يعمل على تطوير بناءه البشري والمؤسسي وتغيير النموذج القائم على التجارة والاستيراد والعمالة الوافدة، إلى نموذج قائم على الإنتاج والتصنيع والتصدير والعمالة الوطنية.

والتجارة المستترة إحدى المشكلات على المستوى الكلي، حيث تسبب تشوهات في سوق العمل، وندرة التمويل، وارتفاع تكلفة ممارسة الأعمال وغيرها من السلبيات، والتي تستوجب معالجات وتدخلات متلازمة ومتعددة الابعاد، وبتنسيق وانسجام بين الأطراف المعنية، فمهما كانت النوايا صادقة والإجراءات التي تتخذها وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار داعمة، فبالتأكيد لن تكون كافية للتعامل مع هذا الملف الاستراتيجي، وتستوجب مشاركة جميع الجهات ذات العلاقة، وعلى راسها الشركات العمانية ذاتها وغرفة تجارة وصناعة عمان، والبنك المركزي العماني وشرطة عمان السلطانية ووزارة العمل، مع ضرورة أن يصاحب ذلك توعية وتواصل استراتيجي مدروس للجميع.