الموتى لا يموتون

 

عائض الأحمد

ليس كل ما تُشاهده مبهرا أخاذا يسر الناظرين دليل نضارة وسعة وبسطة في المال والروح والجسد، فما تخفيه خطوات هذا الرجل المتسارعة للمضي قدما، ما كانت لتكون لو لا ذاك الإرث الثقيل الذي يحمله بين حناياه عله يسقطه يومًا أمام ناظري المتربصين، ليزهق بحثه الدائم عن خلاص وسكينة ظل ينشدها منذ نعومه أظفاره.

ثم يتنفس حتى كادت تتقطع أوداجه ويخرجه زفيرا يشبه زئير أسد جائع دون أن يفتك بفريسته، فهو أقل شجاعة من أن يمسها ضرا خوفا أن تموت ويحيى.

عاش طفولته في مقابر الموتى، وسكن في دورهم كان يسمع حديثهم، ويتنقل بينهم حتى ألف المكان واستوطنه.

أيامه تتشابه لم يكن يعلم أيهما ساعات نهاره وغفوات ليله، حتى وجد في نبوغه مهربا، ليس حبا وإرادة، وإنما بغيه إهدائه لأحد المقبورين معه عندما كانت الأمنيات تقبل، والنصائح تشترى فابتاعها منه، غير مصدق بأنها ستكلفه عمر والده بين آيات تتلى وترانيم حفظها دون أن يفهم إلى أين ستصل به، كان هدفه البقاء، ومقصده تلك البذرة التى بقيت يستصلحها يوماً بعد يوم، حتى أينعت وأثمرت على جثث هؤلاء النائمين حوله.

أَخلَى المدافن وظل يستشعر همس الموتى حين عايشه طواعية، وكأنه يقول هذه روايتي لا يسمعها أحد غيرهم، فهم الأجدر والأكثر قدرة على فهم ما بين سطورها، وليعلم محبو الأساطير، أنها كتبت بقلم أبيض في صفحات بيضاء في ليل حالك السواد.

من كان يظن أنَّ الموتى هم سكان المقابر فقد ظلم "الأحياء"، ولم يعلم أن بين لحودها أنفاس لا تظهر ولن يشاهدها إلا من أخذ بحفنة من ترابها وذرة مع الريح علها تدله على بقايا إنسان.

أما هي فتقول نحن المستعصيات المستوصيات، عشنا في كنف الستر واستوصينا به خيرا، ولم نندم حينما غلبتنا رغباتنا الجسدية، ولم نتنمر قط، فقد أطلقنا له عنان شغفه ومنحناه ماء الحياة، فكشفنا سره وأركعنه تحت أقدامهن، حتى تبلل فمه، وسحق في خرافة العشق لم يبدأ من هنا.

وبغت إحداهما على الأخرى، ثم هجرته وعاشت دهرا تلامس أطرافها بعد أن قذفت معتقداتها تلبية لنداء جسدها، فاستحقت ماعجز عنه نصف مخلوق، كانت تتضور جوعا وهو يعدها بما تهفو له، دون أن تراه.

ختامًا.. شقيق الشقائق في الحزن والهم والكرب، وإلا مانفعه في ساعة لم يدعَ لها.

لم أكن أغلق بابًا خلفي، ولم أحمل مفتاحًا لقفل صنعته يدي.

ومضة:

القرآن لغة العرب.. هل تعلم يا هذا؟ فمن قال إن أباك أو أمك أعجمي لتسأل عن كل حرف سقط من فمي.

يقول الأحمد:

سامرتها حتى غمرتها النشوة، فلم تكد تصحى حتى نال منها الغباء ورحلت.