إبراهيم بن سالم الهادي
على عتبات الوهن لا يشعر بأنين الجرحى سوى أصحاب الألم وحدهم، تهتز معه قواهم ويلامسون مع آلامهم الضعف، مشهد صراخ تلك المرأة على أعتاب طوارئ المستشفى السلطاني وهي تستجدي الطبيبة والطاقم الطبي علاجًا مُستحقًا كفلته لها الدولة ورغم مكوثها ساعات طويلة في سكة الطوارئ لم تحصل على علاج للمريض المرافق، وآخرون ارتفعت أصواتهم واختلطت مع آلامهم جراح داخلية تتغلغل في أجسادهم، موقف ذهب بي إلى الكثير من الذكريات والمشاهد التي نعيشها في المواقف العابرة.
تذكرت معها زميلة صحفية من الجزائر كانت مع زملاء آخرين بصحبتي في العراق عندما كانت الحرب في أوج وطيسها في المنطقة من حولنا؛ حيث أصرّت أن تذهب مع المُقاتلين في ميدان الحرب لتسجل الأحداث عن قرب وتنقل الحقيقة بدقة مُتناهية. وافق المسؤول بالجيش العراقي على أن تُرافقهم خلال مواجهة الجنود، فذهبت معهم بروحها العالية وشجاعتها المفعمة بالفضول. وبقيتُ أنا وزملائي في منأى عن المُواجهة المباشرة، وقبل ذلك كُنّا قد اجتمعنا بالمصابين والجرحى وقد أخذوا علاجهم دون الحاجة إلى الاستجداء والصراخ في دولة كانت تُعاني ويلات الحرب.
ما ذكَّرني بتلك الأحداث هو مشهد المرضى في المستشفى السلطاني وهم يئنون وجعًا بين أروقة الطوارئ، رغم أننا نعيش في أمن وسلام وقد جنبنا الله حروبًا شهدتها دول أخرى، ورغم ذلك يواجه المرضى تحديات كبيرة في استقبال حالاتهم وتحديات أخرى في المواعيد التي تصل إلى أكثر من عام، بعضهم يُوارى الثرى قبل وصوله للموعد، والبعض الآخر تتفاقم مشكلاتهم الصحية فيستعصي علاجها لأنها لم تُتدارك، سبحان الله يحدث هذا ونحن ننعم بالأمن والأمان!
قلت في نفسي لعلهم دقيقين جدًا في ذلك، فأنا كنت حينها انتظر دوري لتفحصني الطبيبة المناوبة فلدي ملف في المستشفى، وقد رقدتُ فيه عدة مرات بسبب مرض أصابني في الربع الأول من العام 2010، وقرر فيه الطبيب في قسم الأمراض الباطنية بالمستشفى السلطاني أن يستأصل كامل أمعائي ويرميها في سلة النفايات الطبية، وقد صادق على تقريره رئيس القسم الذي أكد لي هو الآخر أنَّ جيوب القولون الملتهبة والأمعاء التالفة- حسب وصفه- قد تسبب لي انفجارًا بالقولون، ونسبة النجاة عند الانفجار هي 10% فقط، بينما 90% تؤدي إلى الوفاة، وكأنها محاولة لتحطيم روحي الإيجابية، لكنني صمدتُ وهربت بتقاريري والأشعة المقطعية إلى طبيب مُختص في المستشفى العسكري، والذي بدوره قرأ الملف واطلع على نتائج الفحوصات والأشعة المقطعية، وذُهل! وأكد لي أنَّ التشخيص والأسلوب خاطئ.
موضوعٌ استحضرتُ معه حادثة جديدة لشاب ثلاثيني دخل إلى المستشفى السلطاني لإجراء فحص بالمنظار ليخرج من الجانب الآخر في تابوت الموتى، بسبب خطأ طبي؛ لأحضر عزاءه قبل عدة أيام في أحد جوامع الغبرة الجنوبية، لا أدري لم هذه الحوادث تتكرر دائمًا رغم المليارات التي تدفعها الدولة للقطاع الصحي.
عاودني المرض هذه الأيام مرة أخرى والتهبت جيوب القولون واشتد معها الألم بقوة شديدة، فذهبت إلى المركز الصحي وقابلت طبيبًا لطيفًا جدًا، وقرأ تقارير مرضي عبر النظام الإلكتروني، وقال إن مشكلتك الآن تتطلب تدخلًا علاجيًا في المستشفى السلطاني، ولكن لدينا تعليمات من وزارة الصحة بعدم التحويل، وإنما فقط إرسال طلب للمجمع الصحي ببوشر، وسيأتيك الرد لاحقًا، وقد يستغرق أسبوعًا أو شهرًا أو عامًا حسب جدول المواعيد المتاحة! لكن إذا استمر الألم وزاد اذهب مباشرة إلى طوارئ المستشفى السلطاني، فملفك وعلاجك هناك وتشخيص مرضك واضح جدًا من خلال الأشعة المقطعية وعمليات المناظير. تحملتُ الآلام الشديدة لمدة 5 أيام، إلّا أنَّ الوجع يزداد ليل نهار ما اضطرني إلى التوجه لطوارئ المستشفى السلطاني، حسب طلب ذلك الطبيب المليء بالإنسانية. لكنني قابلت من أول وهلة أدخل فيها قسم الطوارئ بالمستشفى السلطاني، أنينَ المرضى وصراخ المرافقين وهم يستجدون الطبيبة المناوبة علاجًا يُخفف من أوجاعهم، إلا أن الطبيبة كانت مصرة بأنَّ حالات الكثير منهم لا يسمح لها نظام المستشفى السلطاني باستقبالهم، فهم لا زالوا أحياء ولم يصلوا إلى حد الإغماء أو السقوط!
جاء دوري لتقييم الطبيبة بعدما فتحت الممرضة الملف، وأخذت تقرأه لها لتُحدثها أن وضع المريض هذا يتطلب تدخلًا، فقاطَعَتها وقالت لي "نحن لا نستقبل هنا إلا الحالات الحرجة جدًا"، قلت لها إنَّ حالتي مهددة بالموت حسب تشخيص الطبيب الفلاني لديكم، وأنا أعاني من وجع شديد جدًا منذ خمسة أيام. قالت نحن لدينا تعليمات من الوزارة وعليك التوجه إلى طوارئ مستشفى النهضة. حاولت أن أشرح لها لكنها صمّت آذانها دون إحساس، وكنت أتمنى حينها أن تقدم واجب الإنسانية قبل دور الطبيبة معي وغيري من المرضى الذين ملأوا المكان بأوجاعهم. لملمتُ ما تبقى من قواي واتجهت إلى طوارئ مستشفى النهضة ليرفض هو الآخر استقبالي بسبب عدم تخصصه في الأمراض الباطنية حسب الطبيبة التي قابلتها، مؤكدةً لي أن أسلوب المستشفى السلطاني المتمثل في عدم استقبالك وتوجيهك إلى مستشفى النهضة كان خطأً.
الآن أطرح الأمر على كبار المسؤولين في وزارة الصحة، ونأمل الرد منهم.