صنم الأثير

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

يحاول فن الدِعاية والترويج الغوص عميقًا لملامسة أبعد نقطة في قاع المشاعر ويصعد بالمتلقي إلى أعلى مستوى من التصديق والإقناع، لذلك يعمل خبراء هذا المجال لتحقيق أهدافهم المنشودة على مقومات كثيرة وأهما العوامل النفسيةِ معتمدين على صورةٍ تعبيرية تبهر العين أو مقطعٍ قصيرٍ جاذب ومؤثِر صوتي موائم مع عباراتٍ شديدة الاختزال.

قد يبدو الأمر سهلا للوهلة الأولى مع توفر التقنيات والمنافع التي من شأنها إنتاجُ ونشر عملٍ دعائي، بيد أنَّ الأمر عكس ذلك تمامًا بسبب حُمِّيةِ المعروض في الكم والكيف والنوع واستعار أوار التنافس.

لم تنجح كل دراسات تشارلز داروين في تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية للنشأة لكنها ساعدت مؤقتًا في سد بعض الفجوات، وبعد أن ثاب الرجل لرشدهِ بإقرار بوجود الخالق وصراع مرير مع المرض انتُخِب طبيعيًا إلى الوفاة وهو في حيرة من عظمة تكوين العين، لكن قد ينجح هنا بعض من نظرياته ولو نسبيًا في عملية التطور والبقاء للأصلح.

لن يطول كثيرًا بقاءُ منتجٍ ما يفتقر إلى مقومات الاستمرارية وتحديدًا الجودة والسعر وإن توفرت له كل سُبلِ الدعاية والإعلان حيث أصبح المستهلك حكمًا مجربًا قاسيًا وحكيمًا خبيرًا متأنيًا، فانوس عِلمهِ المقارنات وكمية المعروض ويده على هاتفه مع تحييد دور القلب والأخرى على حسابه المصرفي مع ترسيخ جبري لدور العقل.

عندما يكون لنا الاختيار في الذهاب إلى السوق ومُعاينة السِلعة المعروضة وتفحصها فإننا نتحمل نتيجةَ سوء وحسن اختيارنا، ولكن عندما يأتي السوق إلينا على شكل صور جميلة فإننا نتحمل جزءًا من مسؤولية سوء الاختيار والجزء الآخر على البائع الذي روج لنا صورة خادعة، فاعلم أخي الشاب الباحث عن موطئ قدم في عالم تجاري يموج بالمُنتجات أن الصدق هو المصدر الرئيس للنجاح، أيتها المرأة التي تسوقين المُنتجات بين النساء بأضعافِ سعرها الحقيقي، اعلمي أننا أصبحنا قادرين على التمييز وإن أردتِ الاستمرار فاقبلي بفائدتك المُرضية وتجنبي الترويج الوهمي واستغباء العقول فالسوق به تنافس شديد والكل يعلم ذلك، ولاتزال فرقعات الكهرباء الساكنة في بطانية القطن النادر مُضاعفة السعر والتي اشتريتها منك تنبهني صعقًا عند النوم في أيام الشتاء.

دحض العالمان مايكلسون ومورلي وجود ما يُسمى بـ"الأثير"، ولم يُصدقهما الناس وحتى العلماء من أهل الاختصاص، وأفضوا أخيرا إلى قول: "إنَّ الطبيعة تتآمر علينا" وفضلوا تصديق كذبة الأثير بحسب الفكر السائد وبساطة الفكرة في تفسير عددٍ من الظواهر الكونية وأهمها انتشار الضوء، ولا يزال الكثير من الناس يؤمنون بوجود صنم الأثير بعد أن حُرِّق ونُسِف في اليَّم وبعد مرورِ أكثر من 130 عامًا بسبب رسوخ الفكرة ذهنيًا وقد لايعلمون ماهيتهُ، فيرسلون أشواقهم ومحبتهم وشاعريتهم عليه بدءًا بطابور الصباح في المدارس وصولًا للإذاعات الخاصة والرسمية.

في بداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت السُخرية تنهال على السيارة اليابانية والتهكم على شكلها وجودتها وبلد منشأها عندما كان فِكر الطول والعرض هو السائد آنذاك، وهكذا الحال مع وصول السيارات الكورية سريعة الذوبان في منتصف الثمانينيات، مرورًا بسيارات الشيخوخة المبكرة الصينية مع مطلع الألفية وانقراض الروسية لسوء السُمعة! ولكن تكبد أولئك الآسيويون كثيرًا من العناءِ وراهنوا على الصبر مع سرعة تحسين الجودة والشكل واستهلاك الوقود ثم الأسعار حتى وجدوا لهم موطئ قدمٍ على أرضيةٍ هشةٍ تمور بالصراعات التجارية وهيمنة قوى الاقتصاد الغربي، واليوم "الآسيويون" هم من يتحكم تقريبًا بسوق السيارات في العالم، وهكذا نجد أنَّ متانة السيارة الأوروبية والأمريكية مثلا والتي دُحضت منذ عقود (عندما وقف حمار شيخها على عتبة ارتفاع حرارتها المفاجئ ومزاجية الخلل الكهربائي) لاتزال تسيطر على عقول المستهلكين مع استمرار كبار المصنعين باستغلال صنم علاماتهم التجارية والترويج له في قانون شريعة الغاب والبقاء للأصلح، ويعزى ذلك إلى البدايات الناجحة في ترسيخ مبدأ المصداقية والجودة.

يقوم أحدهم بتسويق منتجٍ ما سواءً ابتاعهُ جاهزًا أو صنعه ويدشن منصته الخاصة على عدة تطبيقات في مواقع التواصل ليبدأ انسياب فيض الإعلانات الخاص به ويملأ الأرض والفضاء ويُظهر هدفة السامي من خلال الجودة العالية والأسعار المناسبة بالتوازي مع الاسم الرنان الذي ابتدعه للمنتج، وحتى هذه اللحظة لاتزال الأمور مقبولة بحسب المتعارف عليه مع استمرار الموجات الوردية عبر الأثير لتتجلى في الصور الرائعة ذات الجودة العالية والألوان الزاهية والأبعاد البصرية الأخاذة بمستوى عزلٍ ممتاز؛ "كم هي رائعة هذه الساعة وسعرها مناسب جدًا، بكم أيها التاجر الصغير؟"

يرسل التاجر السعر مع تكلفة الشحن ويعمل بعدها منبه الأثير على خاصية التذكير.. حولت المبلغ؟ هل حولت؟ متى تحول؟ إذا حولت أكد برسالة؟ هذه "آخر حبة" وعليها طلب، هل حولت المبلغ؟

المهم حولنا المبلغ والأمر لله وندمنا ندامة الكُسعي منذ البداية وحتى استلام الطرد، حيث كان الشكل العام مشابهًا للصورة لكن اللون باهتٌ ومختلف والجودة تدعو للسخرية فعلمتُ بأنها من نصيب العامل البسيط الذي يأتي يومياً إلى بيت جيراننا لتنظيف السيارة اليابانية والأمريكية وقلت له: احذر أن تلبسها أثناء الغسيل بالماء.

أخي التاجر المُستجد، لن نطالبك قانونيًا فأنت مُطالبٌ أخلاقيًا ولن نقاضيك وإن كنَّا الحكم سوى بالامتناع والتحذير منك وسوف تكون سمعتك التجارية واستمرارك على المحك وأرجو أن لا تعتقد حينها بأن الكل يتآمر عليك، وتأكد بأنك إن خدعتني مرةً لجهلي فالعار عليك وإن خدعتني مرتين بعد عِلمي فالعار علي وأن المرء "لا يُلدغ من جحرٍ مرتين".

الأكثر قراءة