الجدال الوطني حول فئة "الأكثر ضعفًا"

 

د. عبدالله باحجاج

من الواضح أنَّ مفهوم الفئة الاجتماعية "الأكثر ضعفًا" أو "الأقل دخلًا" أو "الدخل المحدود" سيترسخ في ثقافتنا الجديدة، وسيُعيد تشكيل الطبقات، وقد بدأت تلك الفئة تُشكل الطبقة الدنيا، وفوقها طبقات متدرجة في الضعف، وللأسف المعيار الوحيد الذي يُحددها ويصنِّفها، هو المعيار المالي، ومنه نستشرف خارطة الطبقات المعاصرة التي تنتجها خطة التوازن المالي منذ إقرارها في أكتوبر 2020 وحتى الآن، وسنُحاول هنا الكشف عن تشكيلاتها المتناقضة والتي لا تحمل أية عوامل مشتركة جامعة، إذا ما استمرت السياسة المالية في جنوحها المالي وفق فلسفة الحماية الاجتماعية للفئة الأكثر تضررًا، وحتى هذه الحماية لم تبلغ المستوى الآمن لهذه الفئة.

من المُؤكد أننا نشهد مُتغيِّرات وتحوُّلات جوهرية بصورة راديكالية في واقع الطبقات، وقد أصبحت الخطابات الحكومية الجديدة ترسخ المفاهيم الجديدة للطبقات، بعد أن أطَّرتها السياسة المالية في أقل من سنتين، فكثيرًا ما نسمع عن دعم الطبقة الأقل دخلًا، والأكثر ضعفًا، والأكثر تضررًا بسبب التحولات المالية للبلاد، التي تُركِّز على الجبايات لرفد خزينة الدولة بالمال؛ مما يعني أنَّ مفهوم الطبقات الثلاث الشهيرة "الغنية والوسطى والفقيرة" قد انتهى، ويظهر مشهدها الآن على النحو التالي:

أولًا: الغنية المستريحة، والأخيرة هي التي كوّن أصحابها ثروات مالية وعقارية خلال الحقبة السابقة، وثانيًا: الطبقة الفقيرة، ويتم تجزأتها إلى طبقات "الأكثر ضعفًا، والضعيفة، وفوق الضعيفة بقليل، وهذا سيكون على حساب الطبقة الوسطى. ولا يُمكن أن يحل محلها طبقة "المستريحين"، فهم الأقل عددًا، والأكثر أنانية وانعزالًا بأموالهم، ولا يمكن لهذه الطبقة أن تصنع التوازن المُنتِج للاستقرار، مثلما كانت تصنعه الطبقة الوسطى. وهذه الطبقات الجديدة، يتم شرعنتها من خلال سياسات الدعم الحكومية، بعد أن طال التأثير البنية الاجتماعية العريضة، وأصبحت تُعبِّر عن آلالامها الاجتماعية بصوت مسموع.

وهناك نماذج محدودة للدعم حتى الآن، مثل سياسة دعم فاتورة الكهرباء، وسياسة دعم الوقود، ودعم المستلزمات المدرسية والواجبات الغذائية، فيما تتحدث خطابات حكومية بين الفينة والأخرى عن خطة لحماية متكاملة للفئة الاجتماعية الأكثر تضررًا. ومثل هذه السياسات المالية والمعايير تُقِر بحجم التأثير البنيوي لخطة التوازن المالي من جهة، وتسلِّم بمفهوم الطبقات الجديدة للمرحلة الراهنة والمقبلة من جهة ثانية.

وبالتالي نقف الآن في مرحلتنا الوطنية على مُسميات غير مسبوقة، تحمل في طياتها تحولات ومتغيرات كبرى ودلالات مستقبلية، سواء كانت بوعي أم بلاوعي، وهي نتاج الجنوح المالي. وهذا ما يدفع بنا إلى فتح هذا الملف لمخاطبة عقول الدولة حول هذه المآلات. ولدواعي إقناعهم، سننطلق من جدلية تحديد الفئة الأقل دخلًا والتي بُنيت على أساسها استحقاقات المستلزمات المدرسية والواجبات الغذائية، ونجدها في دخل ما دون 400 ريالٍ، فهل هذا المعيار عادل وينصف كل الفئات المحتاجة؟! فما زاد عن المبلغ مهما كان حجمه يُسقِط استحقاقهم، والقضية هنا ليست في ماهية الاستحقاق، وإنما التفكير الذي أنتج المعيار، وتركيزه على النظرة المالية الضيقة، ومن عين ضعيفة البصر، فأية دخول أو مرتبات ما دون 1000 ريال لا يمكن الرهان عليها في عصر الجبايات.

وهل اقتصار الدعم والحماية على الطبقة الأكثر ضعفًا سيضمن ديمومة الاستقرار الاجتماعي؟ ستصادفنا في الإجابة على التساؤل، قضية الوعي، والتي يغرق فيها كذلك حتى النخب التي حولت تفاعلها مع الوجبات الغذائية والمستلزمات المدرسية لطلاب أسر الدخل المحدود والضمان الاجتماعي من طابعها الإنساني إلى طموح وغاية، فلم ترَ الأصل، وأصبغت على الاستثناء صفته، أي الأصل. وهنا لا بُد من إحراج وعيها بهذا التساؤل: هل أصل القضية هنا الوجبات الغذائية ومستلزمات المدرسة؟ أم الأصل في الدخل المحدود الذي تعجز بسببه الأسر عن تأمين مصاريف عودة أبنائها للمدرسة؟ وكذلك عدم توفير 500 بيسة لهم في كل يوم دراسي؟

الدخل المحدود ومهما كان حجمه، يظل محكومًا بمدى تحقيقه مستوى العيش اللائق للأسر، والمستوى اللائق لم يعد يكمن في الأكل والمسكن والتعليم فحسب؛ وإنما أصبحت الخدمات والمقتنيات الرقمية تدخل في جوهره. فكيف إذا ما عجز هذا الدخل المحدود عن تجهير الأبناء للعودة للمدارس، وكذلك عدم تمكنه من توفير المصروف المدرسي طوال 5 أيام دراسية في الأسبوع، فهل سيتمكن من توفير الحاسوب مثلًا؟ غابت هذه الرؤية الدقيقة عن اللجنة الحكومية المشتركة التي تتولى إدارة المبادرة، وتفاعل مع هذا الغياب الكثير من النخب، وأظهرت قضية الوجبات الغذائية للأسر أصحاب الدخل المحدود والضمان الاجتماعي باعتبارها طموحًا وغاية. وهذا في الواقع اعتراف بمعضلة دخل أسر الدخل المحدود والضمان الاجتماعي، وعجزها المالي في أبسط الأساسيات.

هذا الاعتراف الصريح بعجز أصحاب الدخل المحدود، يُلقي بتبعاته على الحكومة بعد التوجيهات السامية بتأمين المستلزمات المدرسية والوجبات الغذائية، ويُحمّلها مسؤولية حل معضلة هذا الدخل واختلالاته، وتحديد سقفه المالي بمعايير استحقاقية حديثة لتواجه تحديدات الضروريات المعاصرة التي أوضحناها سابقًا، ولن نجده طبعاً في دخل الـ400 ريال، أو حتى الـ800 ريال، وإنما في دخل الـ1000 ريالٍ.

ومن المُفارقات الكبرى أن معضلة الرواتب توسع من نطاق الفئة الفقيرة أكثر من غيرها، فالحد الأدنى للمرتبات عند 325 ريالًا كم قيمته لشاب يُؤسس مستقبله، ويزيد من حجم هذا الاختلال ما تم ابتداعه تحت وطأة الفكر المالي، وهو الوظائف المؤقتة التي يعمل فيها الشباب لفترة زمنية، ومن ثم يجدون أنفسهم بعدها دون عمل! نعرف شبابًا اشتغلوا بعقود مؤقتة لشهرين، وآخرين بعقود لمدة سنتين، وأُبلغوا بعدم التجديد، رغم أنَّهم قد أسسوا أسرًا، وأنجبوا ذريّةً، فكيف ومن أين سيؤمنون لقمة عيشهم؟!

آخر البيانات الحديثة للنشرة الشهرية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لشهر يوليو 2022، تشير إلى أن عدد العمانيين العاملين في مؤسسات القطاع الخاص، بلغ في النصف الأول من العام الجاري نحو 282363 عاملًا؛ حيث يتقاضى القسم الأكبر منهم رواتب ما بين 325 ريالًا وأقل من 400 ريال، ويصل عددهم إلى 88733 عاملًا عمانيًا وبنسبة 31.4% من إجمالي عدد العمانيين، فيما يحصل 51000 عامل عُماني على رواتب ما بين 400 ريال وأقل من 500 ريال وتبلغ نسبتهم 18.4%. والقطاع الحكومي لم يسلم بدوره من معضلة الرواتب بعد خفض المرتبات، وتحديد الحد الأدنى للأجور عند 325 ريالًا دون ربطه بالمؤهلات.

تلكم رؤية استشرافية لما تؤسسه السياسة المالية من أوضاع اجتماعية مستقبلية، بدأت ملامحها الآن بارزة، وتستدعي فعلًا التدخل عبر مراجعة متكاملة للمسير المالي، بعد أن ودعنا الخطر المالي، ودخلنا عصر التفاؤل الذهبي الدائم؛ فالنتائج أو الآثار الاجتماعية للسياسة المالية تدفع إلى المسارعة بكبح جماحها، وعقلنتها، وإذا كانت الضرائب والرسوم إكراهًا على المجتمع، فلابُد من سياسات ومنظومة دعم ذكية للمجتمع، تحافظ على الروابط الاجتماعية والسياسية للمجتمع، عوضًا عن المساس بها وفق مؤشرات متصاعدة.