الأمم الأخلاق (19)

الأخلاق والحرية

د. صالح الفهدي

لا يمكنُ أن تصبحَ الأخلاقُ قُربانًا للحرية، فالأخلاقُ هي أصلٌ والحريَّةُ فرع، ثمَّ ما الحريِّة في حقيقتها؟! أهي تحرُّر من جميعِ القيود والمبادئ؟! أم أنها ضبطٌ للشهوات، والنزوات، والأهواء حتى لا تُخرج الإنسان من دائرة الفطرة الإِنسانية السليمة؟!

أراد البعضُ للحرية أن تخرج من نطاق المسؤولية، وقد وجدتُ من استغربَ طرحي في أحد المجالس للحرية والمسؤولية، وقال إن الحرية لا يمكن أن تكون حريَّة إن حدَّتها حدود، فقلت له: حينها لا يمكن أن تُطلِق عليها "حرية" فقد أصبحت "عبودية"؛ لأنها خرجت من دائرة الكرامة الإنسانية التي تضبطها الأخلاق والمباديء القويمة.

العبودية الناجمة عن الحرية هي عبودية العبدِ لخالقهِ وحسب، فالعبودية لله حريَّة للعبد لأنها تحرِّره من نزواته وشهواته، تحرِّره من عبودية المال، وعبودية الخلق، وما أعظمها من عبوديةٍ تمنحُ العبدَ حريَّته، فيكون حرَّا لأجلِ نفسه، يكون حُرًّا كما أرادهُ الله.

وإذا كُنا نقصد هُنا الحرية الأخلاقية، فإننا نعني بها تلك الحرية المسؤولة في نطاق الأخلاق المتعارف عليها، وبأطرها العامة التي ترسَّخت في نفوس أفراد المجتمع، فأصبحت حدودها واضحة، فالحرية في إطارها مسموحة ومرتضاة أمَّا خارجها فهي متجاوزةٌ ومرفوضة.

في كثير من الأحيان تُنتهك الأخلاق بذريعة الحريَّة، دون اكتراثٍ بأن الحرية إن خرجت من حدود الأخلاق فهي انفلات وشطط، وتسفُّلٌ وانحطاط؛ إذ لا يمكنُ إطلاق اللسان ببذاءات القول، وسقطات الكلام ثم يُقال إن كل إنسانٍ حُرٌّ فيما يقول..!! ولا يمكنُ إبداء السلوكيات المنحرفة على مسمعٍ ومرأى من الناس ثم يقال: إنها حرية فدعوا "الخلقَ للخالق"..!

ولا يمكن إبداء التصرفات المتبذُّلة ثم تبرير ذلك بأنها تصرفات عفوية، وبريئة..!! فما هُلك الذين من قبل إلا لأنهم "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة: 79).

وما مصيبة المجتمعات التي إلا لأنها جرَّدت الحرية من المسؤولية الأخلاقية، يقول باتريك جيه بوكانن، مؤلف كتاب "موت الغرب": "والآن فإن عالمنا قد انقلب رأسًا على عقب، ما كان حقًّا وصدقًا بالأمس هو اليوم خاطىءٌ وكاذب، وما كان غير أخلاقي ومخزيًا: الزِّنا، والإجهاض، والانتحار والقتل الرحيم، قد صار تقدميَّا ويستحق الثناء!! وقد سمَّى نيتشه ذلك "نقل التقييم لكلِّ القيم، الفضائل القديمة تتحول إلى خطيئات، والخطيئات القديمة تتحول إلى فضائل".

ثم تعالت الصيحات في بعض البلدان الغربية ومنها بريطانيا بـ"الحرية المسؤولة" ولكن بعد فوات الأوان، فقد أصبح الهدف الرئيس هو القضاء على الأخلاق، يقول السياسي الأمريكي سكوت ليفلي: "الخطر الحقيقي لحركة المثليين هو هدفها الضروري في القضاء على هذا النظام الأخلاقي من أجل تحقيق هذه ’الحرية الجنسية‘".

ولا شكَّ أن الحرية إن أسقطَت الأخلاق من حساباتها، واعتباراتها، انزلقت إلى الحضيض، ولا يمكن حينئذ أن يقال عنها حريَّة؛ بل إنها تصبحُ فعلًا عدائيًا مضادًا للأخلاق، يقول الكاتب الأمريكي المعاصر متخصص في اللاهوت والعلوم السياسية جورج ويجل "الحرية التي تفتقر إلى الحقيقة الأخلاقية تصبح أسوأ عدو لها".

هذا يعني أن شريحةً من المجتمع إن غلَّبَت الحرية على الحقيقة الأخلاقية، فقد جعلت الحرية عدوةً للأخلاق، وهي حين ترفع أصواتها مطالبةً بالحرية قد اختلطت بها المفاهيم، فأصبحت تُدافعُ عن شيءٍ وفي المقابل لا ترتضيه لنفسها أو لأسرتها، كمن يدعو إلى انتشار التبغ والتدخين ثم ينهى أبناءه عنه لأنه مؤذٍ للصحة، وقاتل!

وكم يدافع عن الميوعةِ، والمجون، وساقطي الأخلاق، ثم يعظون أبناءهم بأن ذلك طريق الضلالة والغي والفسوق، فلم هذه الإزدواجية التي يمارسونها دون أدنى شعور بالمسؤولية؟ يقول الكاتب الأخلاقي الفرنسي جوزيف جوبيرت: "ليكن صراخك على النفوس الحرة لا الحرية. الحرية الأخلاقية هي الحرية الوحيدة المهمة".

فإذا اختلطت مفاهيم الحرية في المجتمع، وغامت معانيها، وضاعت حدودها، فأصبح هذا يدافعُ عنها، وهذا يعارضها فإن المجتمع قد وصل إلى (المرحلة الضبابية) في النظر إلى الحرية، الأمر الذي يعني أنها منطقة محايدة، الغالب فيها هو الذي سيخرجُ منتصرًا بغضِّ النظر عن قيمه!!

نقولُ بملءِ الفم إنه: إذا لم يوحِّد المجتمع نظرته في معنى الحرية الأخلاقية، فقد وقع في البلبلة والفوضى التي تتشتت فيها المعاني، وتضيع فيها المفاهيم وهُنا يصبح كل قولٍ مهما كان منطقه وحجته فيها قابلٌ للنظر، ومرجَّحٌ للصحة..! وهُنا سيلعب في ميادينه اللاعبون الذين ينتهزون هذا التردد الإجتماعي في تحديد معنى الحرية الأخلاقية، فيكتبُ هذا مقالًا يدعم فيه بالقلمِ حرية المتهتِّكين كي يواسيهم، ويدعم آخر بالمال أصحاب التخنُّعِ الأخلاقي كي يجبر بخواطرهم، ويتدافع الناس من ورائهم غناءً ورقصًا وتطبيلًا، حتى يُصبح دعاةُ المجون قدوات فاضلة للمجتمع، ويمسي الغيورون على أخلاق المجتمع أهل فجاجةٍ وغلظةٍ، وحماقةٍ وطيش ليس لشيء وإنما لأنهم أرادوا نصر قيمهم الأخلاقية..!!

خلاصة القول.. إننا في مرحلةٍ فاصلةٍ من الزَّمن إمَّا أن نحدِّد فيها معنى وقيمة "الحرية الأخلاقية" وإما أن تجرفنا المفاهيم المنحرفة المدعومة بقوة لمعنى الحريَّة المنفلتة من المسؤولية والروابط الأخلاقية .. ويكفينا أن نرى تياراتها كيف تجرف الغربَ الذي يشهد موتًا أخلاقيًا في سقوط القيم والأخلاقيات وانتشار الشذوذ، كما ذكر ذلك الكاتب باتريك جيه بوكانن في كتابه "موت الغرب".