القرآن يقيني لا يقبل إلا اليقيني
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
ذكرتُ في المقال السابق أن اختلافات رسم المصاحف المُبكرة عن رسم مصحف عثمان أمر معروف لدى عُلماء المسلمين منذ تدوينهم المبكر لتاريخ نزول القرآن وأطوار جمعه ومراحل كتابته في المصحف الإمام، فلا يُعد أمرًا جديدا كشفه الباحثون الغربيون والمستشرقون بعد العثور على مخطوطة صنعاء .
وقد وثَّق العلماء القدامى هذه الاختلافات في مئات الكتب التي وصلتنا، ودونوا كافة الأقوال التي وصلتهم عن الصحابة الذين عايشوا نزول القرآن وحفظوه، لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من اختلافاتهم إلا ذكروها. راجع على سبيل المثال كتاب "الإتقان في علوم القرآن" وهو من 4 مجلدات، للإمام السيوطي المتوفى عام 911 للهجرة؛ حيث كان- رحمه الله- حاطب ليل، جمع كمًا هائلًا من المرويات المنسوبة إلى كبار الصحابة، مضامينها أنَّ القرآن الذي بين أيدينا اليوم سقط منه آيات وسور لم تدون في مصحف عثمان! منها أن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي 200 آية، فلما كتب عثمان المصحف، لم نقدر منها إلا ما هو الآن، ورواية أخرى، تقول: إنَّ سورة الأحزاب كانت لتعدُل سورة البقرة! وأن "الحفد" و"الخلع" سورتان ورُفعتا! ومنها أنَّ "آية" في كتاب الله، نسخت تلاوة وبقيت حكمًا، هي "آية الرجم" ونصها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله". ومنها عن عائشة: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهنَّ مما يتلى.
هذه نماذج قليلة عن آيات وسور سقطت، ومثلها الكثير في كتب التراث.
تقييم هذه النقولات
أولًا: القرآن مُتواتر يقيني فلا يقبل إلا متواترًا يقينيًا، وكل هذه المرويات عن آيات وسور سقطت (بعضها ورد في الصحاح ومنها البخاري ومسلم) هي مرويات آحادية ظنية لا تثبت قرآنًا؛ لذلك لم تقبل اللجنة التي دونت مصحف الإمام مدونات الصحابة الشخصية ولا إضافاتهم وقراءاتهم التفسيرية، ولم يُثبتوا إلا المُتواتر اليقيني المحفوظ في الصدور والمتفق عليه من الجميع.
ثانيًا: إنَّ أي متذوق لفصاحة الأسلوب القرآني يقشعر جلده لمجرد القول إن هذه النصوص قرآنية، ففضلًا عن ركاكة أساليبها وغرابة ألفاظها وتراكيبها المناقضة للنظم القرآني البليغ، أقول: هي نُقُول مُظلمة لا تمت بصلة إلى جنس القرآن النوراني (راجع في التفصيل، المقال القيم: آية الرجم المزعومة لعصام تليمة).
ثالثًا: مما يؤكد أنَّ هذه المرويات لم تكن قرآنًا، وإنما هي مجرد مدونات تفسيرية أو قراءات وأفهام كتبها بعض الصحابة في مصاحفهم الشخصية لأنفسهم، أنها لو كانت قرآنًا واستمرت قراءتها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأثبتوها في مصحف الإمام.
لكن المُنافحين المتمسكين بقرآنية هذه المرويات التي وصفتها بالمظلمة، عزَّ عليهم القول إنها ليست قرآنًا (لأنها وردت في الصحاح وخاصة البخاري ومسلم)، فحاولوا إيجاد مخرجٍ لها، فقالوا إنها كانت قرآنًا ثم نسخت تلاوة وبقيت حكمًا!
وهذا مخرج مُعضِل؛ لأنَّ السؤال هنا: من قرر أنها كانت قرآنًا؟ ومن قرر أنها نسخت تلاوة وبقيت حكمًا؟ وهل حكم الصحابي الظني يكفي للقول بقرآنيتها أو نسخها؟!
إنَّ كتاب الله يقينيٌ لا يلحقه إلا يقيني، وفضلًا عن ذلك، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام هو وحده الذي يملك حق القول بقرآنية نص أو نسخه لا الصحابي، ولم تصلنا مروية واحدة تَنسِب له القول بالنسخ مُطلقًا، كما لا توجد مروية واحدة تَنسِب له أن آيات نسخت تلاوتها دون حكمها، أو نسخ حكمها دون تلاوتها، أو نسخت التلاوة والحكم؛ إذ ليس في كتاب الله ناسخ ولا منسوخ، إنها مجرد مخارج فقهية متأخرة هدفها نصرة رأي فقهي على آخر.
رابعًا: إنَّ الأمانة العلمية والمنهجية للقدماء هي الدافع لهم لتدوين كافة المرويات التي وصلتهم عن الصحابة بما فيها مرويات عن سُوَر وآيات سقطت، وهذا محل تقدير.
خامسًا: لا خشية على كتاب الله من مزاعم مُثارة على منصات التواصل الاجتماعي وبرامج فضائية تُروِّج لتحريف القرآن، فهذه الأقاويل كثيرة في تراثنا ولم تزد المؤمنين إلا يقينًا بصحة وسلامة كتابهم.
وللحديث بقية...
** كاتب قطري