حاتم الطائي
◄ الصراع المدمر على الطاقة يُنذر بـ"انهيار اقتصادي"
◄ اضطرابات اجتماعية حادة تهدد أوروبا مع تضخم أسعار الطاقة
◄ لا بديل عن سياسات مالية تُخرج الاقتصاد العالمي من "الحلقة المُفرغة"
العالم في أزمة عميقة.. هكذا يُمكن بسهولة قراءة المشهد الدولي سياسيًا واقتصاديًا وحتى اجتماعيًا، وعلى العديد من المستويات، لكن التمعن في طبيعة وعمق هذه الأزمة، يُفصح لنا عن جوانب غير مرئية بالدرجة الكافية في الوقت الراهن، إلّا أنها بلا شك ستطفو على السطح قريبًا، وهنا نتحدث عن صراع يتكرر لكنه خلال الفترة المُقبلة سيكون أشد وطأة على نحو لم نشهده من قبل.. إنِّه الصراع المُدمِّر على الطاقة.
فمنذ تفشي وباء كورونا في بداية الربع الثاني من 2020، بدأت الأسواق العالمية في التأثر بأخبار الجائحة التي استشرت في معظم أنحاء العالم، وتسببت في إغلاقات وخسائر بات الجميع يعلمها عن ظهر قلب، لعل أسوأها (بالنسبة لنا على الأقل) انهيار أسعار النفط في أبريل 2020 دون الصفر. ومع التعافي الهش في منتصف 2021، عاودت المؤشرات الاقتصادية التحسن، لكن سرعان ما تبخرت الآمال المُعلقة على هذا الازدهار الاقتصادي المنشود، في ظل النمو البطيء حول العالم، والذي تلقى ضربة قوية مع اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، وتلت ذلك العقوبات الحادة للغاية التي فرضتها الولايات المُتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، ما تسبب في تعمُّق الأزمة. وبالتوازي مع هذه الأوضاع، وقعت مُتغيرات أخرى ألحقت أضرارًا اقتصادية، من بينها زيادة الطلب على الطاقة في وقتٍ لم تكن سلاسل الإمداد والتوريد قد تعافت بالدرجة الكافية، ما أحدث اضطرابات في الأسواق، أدت إلى زيادة الأسعار تدريجيًا، علاوة على الزيادة الناتجة عن المتغيرات الجيوسياسية، مثل الأزمة الأوكرانية التي تسببت في قفزة غير مسبوقة لأسعار الغاز الطبيعي، وحالة الهلع الأوروبي نحو تأمين مصادر الطاقة.. كل ذلك يمهد الطريق نحو أزمة طاقة عالمية، لن تكون بسبب نقص المعروض أو زيادة الطلب وحسب، وهي أسباب منطقية لأزمة كهذه، لكنَّ السبب الرئيس وراء هذه الأزمة سيكون الارتفاع الهائل في سعر الطاقة، لدرجة لن تتمكن الدول من شرائها، وفي حالة استطاعتها الشراء، سيصل السعر النهائي إلى المستهلكين (الأفراد والشركات) لمستويات لا يمكن تحملها. ولنا مثال في قرار الحكومة البريطانية الذي أعلنته قبل 3 أيام برفع سعر الغاز بنحو 80% اعتبارًا من أكتوبر المقبل، مع بدء فصل الشتاء، في خطوة تهدد باضطرابات اجتماعية في بريطانيا، بينما تكافح الحكومة من أجل احتواء أزمة التضخم وما تسبب فيه من كساد طال معظم القطاعات الإنتاجية. نقول ذلك ونحن نقرأ الأخبار الواردة من بريطانيا عن موجة اضرابات عمالية تتزايد يومًا تلو الآخر طلبًا لزيادة الأجور لمواجهة غلاء المعيشة، ولعل الأيام المقبلة ستكون حُبلى بالمزيد من الاضطرابات الاجتماعية التي تكشف عن عمق الأزمة، فالقضية ليست زيادة في مؤشر التضخم وحسب؛ بل عدم قدرة الأسر البريطانية على تحمل مصاريف الحياة، وهو تحدٍ لم تعانيه بريطانيا منذ عقود.
الكساد التضخمي الذي يحذر الخبراء منه، لا يُتوقع له نهاية قريبة؛ بل قد يمتد إلى منتصف العام المقبل 2023، ويُهدد بالمزيد من الأوجاع الاقتصادية والآلام الاجتماعية، وربما المِحن السياسية، فالصعود الحاد لأسعار الطاقة، كما يتوقع خبراء صندوق النقد الدولي، لن يتوقف على المدى القصير، وربما يستغرق الأمر فترة أطول من المتوقع كي تبدأ الأسعار في التراجع؛ فالشتاء القادم بعد نحو شهر أو شهرين من الآن، سيدفع أسعار الطاقة- وخاصة الغاز الطبيعي- إلى مستويات قياسية، مع نمو الطلب، وربما قد تقع أزمة كارثية في حال توقفت إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا لأي سبب من الأسباب!!
ومما يزيد من الطين بلة، أنَّ البنوك المركزية حول العالم لن تتمكن- بما يكفي- من السيطرة على التضخم، خاصة وأن السياسات المالية للكثير من الدول تعاني من الاختلالات البنيوية، فأزمة الديون الكبيرة التي وقعت في براثنها الكثير من الدول، وارتفاع العجوزات المالية في الميزانيات العامة لها، تمثل نقاط شديدة الضعف في المنظومة المالية للدول، خاصة إذا كانت الحلول تنحصر وحسب في زيادة أسعار الفائدة، وفرض المزيد من التشديد النقدي، وهنا سيقع الاقتصاد العالمي في دوامة لا نهائية من عدم الاستقرار!
ويبقى القول.. إنَّ التحدي القائم أمام العالم حاليًا، يتمثل في كيفية اتخاذ الإجراءات الكفيلة أولًا بإنهاء الأزمة في أوكرانيا، وعودة تدفق الغاز والسلع الروسية إلى الأسواق دون مُعوقات أو عقوبات، وكذلك الاتفاق على إطلاق حزم تحفيز تهدف إلى إنعاش الأوضاع الاقتصادية بالتوازي مع تنازل الدول الكبرى عن جزء من ديونها للدول النامية والاقتصادات الناشئة، ووضع الحلول العملية لكبح جماح التضخم دون أن يتحول الأمر إلى ما يشبه السير في حلقة مُفرغة، وإلّا ستظل الأزمات تقصم ظهر الاقتصاد العالمي وصولًا إلى مرحلة الانهيار الكبير، والتي لا نعلم عواقبها ولا طبيعتها، لكنها بلا شك ستكون مدمرة!