الفقهاء الطائيون (4)

زاهر بن محمد بن عامر الطائيّ.. شيخ الفقهاء وفقيه العلماء

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

 

الشيخ الفقيه الشيخ زاهر بن محمد بن عامر الطيوانيّ (سكنًا ومستقرًّا)، والعقري النزويّ (عِلمًا وفِقهًا)، والبطاشيّ (حِلْفًا وعهدًا)، والطائيّ (نسبًا وصهرًا)؛ من مشايخ القرن الثالث عشر الهجري وهو من رعيل العلماء والفقهاء الذين حملوا العلم الشرعيّ في صدورهم، وخطُّوه بأقلامهم، ونسخُوه بمداد قرائحهم النُّورانية، وترحلُّوا به إلى شرق أفريقيا، وأضاءوا بذبالته مصابيح الدعوة الإسلامية، فأناروا مجاهل الغابات، وقدحوا شرارة التنوير في العقول التي أطفأت أنوارها دياجير الظلمات، وهدموا بيوت العنكبوت التي نسجتها من تُرّهات الجاهلية، وحطموا الأصنام التي نصبها المستعمرون في نفوس الأفارقة المفطورين على الانصياع للخالق الواحد الأحد، والمؤلفة قلوبهم على الإيمان بالفرد الصمد فانفرط عقد الوثنية، وبددوا غشاوة القلوب، ومزقوا أستار العصبية.

كان الشيخ زاهر الطائي واحدًا من عُصبة الرجال العُمانيين الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكان نبراسا إسلاميا يفتح بورعه وعلمه وتقواه، وعلمه مغاليق القلوب، ويعبُّ من أنوار علم الغيوب، عاش زاهدا عالما ومتعلما إلى أنْ قضى نحبه  في الجزيرة الخضراء سنة 1293 هجرية.

ومن مشهور كلامه بين الناس وجماعة من العلماء ما أورده عنه (محمد بن عبد الله السيفي) صاحب كتاب (النمير حكايات وروايات. ج6، ص: 429 - 430)، في معرض تأريخه لعلماء الفقهاء الإباضية في زنجبار وجنوب أفريقيا؛ قال الشيخ زاهر بن محمد بن عامر الطيوانيّ: "إذا رأيت الرجل شديد الحرص على وقته فذلك من أعظم الموافقات، وإذا رأيته يهدر وقته فذلك من أعظم البليّات، ولا يلومن إلا نفسه. وعلى المؤمن البصير أن يعتدل في مخالطة الناس، ولا يعاشرهم إلا بقدر الحاجة، فمن كثر اختلاطه بهم لم يسلم من قيل وقال.. وذلك من علامات الخسران.. ومن الطمأنينة وراحة القلب الرزق الكفاف، واعتدال المعيشة بين الفقر والغنى".

ومن فقه هذا الشيخ ونباهة عقله، واتساع أفقه، وترامي معرفته بأصول الفقه أنه أملى وصيته بنفسه قبل موته وهو في تمام صحته، وإداركه ووعيه على (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف الطيوانيّ) الذي خطَّها بيده، وأثبت في تذييلها شهادته. ومما جاء في هذه الوصية من أحكام فقهية؛ توصيتُه "بأجرة من يصوم عنه شهرين زمانا بدلًا وقضاءً عمّا فسد من صيام شهر رمضان"، وهذا الحكم الفقهي فصّل فيه سماحة الشيخ أحمد الخليلي في "الموسوعة الكبرى" في "فتاوى الصوم"، و"فتاوى في الوصية"، جاء فيه: "ومن العلماء من توسّع، وهذا مذهب أصحابنا المشارقة؛ توسعوا كثيرًا حتى أباحوا أن يصوم الأجنبي، وأباحوا أن يكون هذا الصيام بأجرة، ولولا النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لما قلنا بصيام أحد عن أحد، وكل ما كان خارجًا عن سنن القياس فغيره عليه لا يقاس، ولما كان لا يقاس عليه غيره فلا نقول بحال بأنه يسوغ أن يصوم غير الولي وأن يكون هذا الصيام بأجرة، لا نقول ذلك، ولذلك نقول بأن أولى الناس بالصيام هم (أولاد الموصي وورثته)، يصومون إن اقتسموا ذلك بحسب الميراث فذلك خير، وإن تكفل بعضهم فذلك خير، ولكن لا يصوم اثنان في وقت واحد، وإنما لهذا أن يصوم عندما يفطر هذا حتى لا يكون صيامان عن شخص واحد في يوم واحد". وعليه "فإن من مات وعليه صيام صام عنه وليّه وهذا جاء به الحديث حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها- عند الشيخين وحمله بعضهم على صيام النذر خاصة، ولكن هذا يتنافى مع ما ذهب إليه أكثر الأصوليين من أن الحكم العام إذا ورد لفرد من أفراد مدلولاته فإن وروده لذلك الفرد في نص آخر لا يدل على أنه خاص بذلك الفرد أي لا يخصص ذلك عمومه بل يبقى عمومه كما هو، وقوله صلى الله عليه وسلّم: من مات وعليه صيام. الصيام فيه مطلق، و(من) من أدوات العموم، فمعنى ذلك من مات وعليه أي صيام كان، فإن ذلك الصيام يمكن أن يصومه عنه وليه. والولي تعني القرابة ها هنا؛ إذ القريب هو ولي قريبه".

واشتهر عن الشيخ الفقيه الشيخ زاهر بن محمد بن عامر الطيوانيّ ولعه وشغفه الذي جاوز الحد، وفاق التصورات بنسخ أمهات الكتب في الفقه والعلوم الشرعية، فلم يكن يبدد وقتا من ليل أو نهار؛ سواءً أكان في الحضر أو المدر، في الحل والترحال أو على ظهر سفينة تمخر عباب البحار والأنهار؛ وفي ذلك طرفة أوردتها سلمى البطاشية صاحبة كتاب "الطواونة"؛ أنه ذات مرة انسكب المداد من محبرته في نسخة المخطوط فعلّق الشيخ في خاتمة المخطوط: "كان تمام هذه النسخة المباركة نهار السابع من شهر شعبان من سنة 1273هجرية على ظهر السفينة، وقد هاج الموج، واضطربت السفينة بشدة حتى انسكب المداد في الكتاب، كما ترى؛ شاهد ذلك في هذه النسخة، لله الأمر من قبل ومن بعد".

ومن الكتب التي نسخها الشيخ زاهر بخط يده ومداده كتاب "بيان الشرع"، و"جامع أبي الحسن البسيوي"، و"الكشف والبيان"، وكتاب"الدلائل"، و"بصيرة الأديان"، كما نسخ كتابا مجهول العنوان، وعلّق في آخره بقوله: "تمت القطعة الثانية من الجزء المبارك في الغسل والجنابة وأحكامها، وفي الوضوء ومعانيه، والتيمم ومبانيه، تأليفا وردّا وتصنيفا عن الشيخ الفقيه العالم العلامة جاعد بن خميس بن مبارك الخروصيّ الخليليّ، وكتبه أفقر العباد زاهر بن محمد بن عامر بن خلف الطيوانيّ البطاشيّ بيده الفانية وكان تمامه بنهار [...] جمادى الآخر سنة 1371".