حاتم الطائي
◄ الكوارث العالمية تُنبئ باحتمال نشوء تحوُّلات غير مسبوقة
◄ أزمة الغذاء العالمية قد تتعمق مع تفشي موجة القحط في أوروبا
◄ الانهيارات الاقتصادية الحادة لن ترحم "الدول المتقدمة"
بينما لم يلبثْ العالم أن يستفيقَ من جائحةٍ عنيفةٍ أضرّت باقتصادات الدول، ولم تزل الحرب في أوكرانيا مُشتعلة، والتوترات البالغة الخطورة بين أعتى قوتين نوويتين، فقد تتابعت الكوارث البيئية والمناخية واحدة تلو الأخرى، في مشهد يُمكن اعتباره مشهد "التحوُّلات العالمية الكبرى"، وهو مشهد لا ينبغي أن نتوقع أنَّه سيمُر مرور الكرام، مع التيقن بأنَّ ثمّة مُتغيرات جذريّة سيشهدها العالم خلال المرحلة المُقبلة، وهذه المتغيرات تتبلور حاليًا ونسردها في سياق السطور التالية.
التغيُّرات العالمية بدأت بالفعل مع ثبوت انهيار المنظومة العالمية في التعاطي مع جائحة كورونا، وما تلى ذلك من إخفاقات مُتتابعة برهنت على ضعف الحضارة الإنسانية المُعاصرة في مواجهة التحديات الطبيعية، وهي ما زالت كذلك، فرغم لجوء معظم الدول إلى سياسات الإغلاق والحظر والعزل والحجر الطبي، إلا أن الفيروس استشرى وتسبب في وفاة ما يزيد عن 6.4 مليون إنسان، وإصابة أكثر من 600 مليون آخرين، وانكماش اقتصادات كبرى وناشئة ونامية، ناهيك عن انهيار الاقتصادات الضعيفة وتحولها إلى دول فاشلة، مع تزايد أعباء الديون والنقص الحاد في الموارد، وتردي المنظومة الاقتصادية والصحية. ولا أدل على ذلك من معدلات النمو العالمي التي تراجعت من 6.1% إلى 3.3% خلال العام الجاري 2022، ثم تواصل الانخفاض إلى 2.4% العام المقبل 2023 في الاقتصادات المُتقدمة. وهذه الأرقام تُظهر بوضوح مدى التأثر الشديد بالتداعيات التي فرضتها الجائحة، وما زال تأثيرها قائماً إلى الآن. وقد ترافق مع ذلك تذبذب أسعار النفط، فبعدما بلغت مستويات دون الصفر للبرميل، قفزت الأسعار لما فوق 120 دولاراً، لتستقر حاليًا بين 90 و95 دولارًا.
ومنذ فبراير الماضي والعالم يرزح تحت وطأة أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، وما سببته من تداعيات خطيرة وبالغة التأثير على الأمن الغذائي العالمي، فقفزت أسعار الحبوب والمواد الغذائية لمستويات غير مسبوقة، تهدد بتفشي مجاعة عالمية، وقد حذرت المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة والهيئات المعنية التابعة لها من مغبة استمرار ذلك الوضع، فضلًا عن تعريض ملايين الأطنان من حبوب مثل القمح والشعير والذرة، للتلف والإهلاك نتيجة طول فترة التخزين في الصوامع دون بيعها. وقد ألقت هذه الأزمة الغذائية بظلال قاتمة على كل الأسواق، وسارعت الدول المستوردة للحبوب إلى البحث عن بدائل في أقصى الشرق والغرب، الأمر الذي دفع بالأسعار إلى الصعود بقوة الصاروخ، وتسبب في زيادة المُخصصات المالية بموازنات الدول لشراء هذه الحبوب، وهنا تشكّلت أزمة جديدة؛ وهي زيادة العجز المالي للكثير من الدول مع لجوئها إلى الاستدانة لتغطية النفقات المتنامية بسبب التضخم، بالتوازي مع تفاقم أزمة الديون القائمة بالفعل.
وقبل أسابيع قليلة، تصاعدت حدة التوتر بين أكبر قوتين نوويتين؛ الصين وأمريكا، على خلفية الأزمة الدبلوماسية التي تسببت فيها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي، عندما قررت زيارة تايوان، مُتجاوزة التحذيرات التي أطلقتها الصين من مغبة هذه الزيارة المُستفزة، وهو ما دفع بكين إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد مسؤولين أمريكيين وإلغاء التعاون في عدد من المجالات المُهمة والمؤثرة على السلم العالمي. تلى ذلك، قيام الصين بمناورات عسكرية كبيرة وتأجج حدة التصريحات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة.
عصر التحولات الكبرى آخذ في التَّشكل، وقد بات من المحتمل أن نرى- قريبًا- دولًا كانت توصف بأنَّها "عظمى" تعاني من ويلات غير مسبوقة نتيجة للتغير المناخي الذي يضرب أنحاء العالم؛ حيث تشهد العديد من الدول الأوروبية موجة جفاف لم تحدث منذ أكثر من 500 سنة، وما قصة "أحجار الجوع" ببعيدة عن المشهد الكارثي الذي لا تتمناه أي دولة، فقد تسبب الجفاف الذي ضرب أنهار أوروبا- مثل نهر الدانوب والراين، وغيرهما- في توقعات قاتمة بأن يضرب القحط أجزاءً من أوروبا ويعود بها إلى العصور الوسطى، مع غياب المورد المائي اللازم لري ملايين الهكتارات من المزروعات، خاصة إذا ما علمنا أنَّ مياه الأنهار العذبة تسهم بنحو 80 مليار دولار في اقتصاد منطقة اليورو، وستتضرر قطاعات اقتصادية مؤثرة مثل قطاع الطاقة الكهرومائية الذي ينتج الكهرباء من السدود المقامة على هذه الأنهار، وقطاع النقل النهري؛ حيث تسهم الأنهار الأوروبية في نقل المنتجات النفطية، وغير ذلك من الأضرار.
أضف إلى ما سبق أنَّ مثل هذه التغيرات العنيفة في البيئة تفاقم من أزمة الاحتباس الحراري؛ حيث إن تراجع الاعتماد مرة أخرى على الموارد الطبيعية غير الملوثة للبيئة، سيزيد من غازات الدفيئة، ومن ثم توقعات بفيضانات غير مسبوقة في دول لم تعتد عليها، وقد رأينا بأنفسنا ما يحدث من موجات متتالية من الأمطار شديدة الغزارة التي تتسبب في جريان أودية وحدوث سيول، حتى في صحراء الربع الخالي، التي تشهد الآن جريان أنهارٍ من المياه العذبة فيها!
والتحولات الكبرى لن تستثني أحدًا، فهناك دول أوروبية قد تسقط في براثن الانهيار الداخلي الحاد، مع شُح الموارد وتأزم الاقتصاد، وانتشار الجفاف، وندرة المحاصيل، وربما نشهد هذه الدول- التي كانت يومًا ما مانحة- تطلب المساعدات المالية من الدول الأخرى. كما إن هذه التحولات من المحتمل أن تطال أكبر اقتصاد في العالم، فشبح الركود الذي يتهدد أمريكا، يُنذر بويلات اقتصادية صعبة ومؤثرة في الاقتصادي العالمي، الذي تسهم فيه الولايات المتحدة بأكثر من 20 تريليون دولار، بينما في المقابل نجد الاقتصاد الصيني الذي يُسهم بنحو 14 تريليون دولار في وضع جيد نسبيًا، نتيجة قدرة الصين على السيطرة على مؤشراتها الاقتصادية.
ويبقى القول.. إن سلسلة من التحولات الكبرى تحدث في العالم لتُعيد تشكيله على نحوٍ لم يتوقعه أحد؛ فالمتغيرات الطبيعية والتأثيرات الاقتصادية الحادة والحروب والتوترات العسكرية والسياسية، كُلها عوامل تدفع بمحركات التغيير نحو مرحلة لن تتمكن فيها الدول الكبرى من السيطرة عليها، وسيكون من اللازم اتخاذ إجراءات مؤلمة ربما تُهدد مكانة بعض الدول وتتسبب في انهيار اقتصادات كبرى، لكن من المؤكد أيضًا أنَّ دولًا أخرى سيبزغ نجمها وتترسخ عندئذٍ نظرية التعددية القطبية.. غير أنَّ السؤال الذي يبحث عن إجابة: هل سيستقر العالم حينذاك؟!