بلا هوادة

 

عائض الأحمد

 

القدرة على تقبل الأشياء تختلف من شخص لآخر كما هي أنماط الشخصيات والتفاعل معها، وذلك كما قال أحد الحكماء ولكنه للأسف مات وهو يشكو قلة حيلته؛ بل وكان يحدث أحد المقربين منه بأنه لم يشعر في حياته بما يتناقله الناس عن خير سيدهم وكرمه وأفنى عمره يلهث خلف ما يسد رمقه، وإن زاد- وهو غير ذلك- فهو يقسمه مع "قطة" أنيسة وونيسةـ بعد أن تخلى عنه أقرب الناس وتُرك لمصيره، ليس لسوء فيه، وإنما لضيق ذاتهم واتساع ذائقته.

العجيب أن القوم يجتمعون حول فِنَاء ما يسمى داره، ينهلون من علمه المتواضع- كما يقول- بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، تحمله عصاه دون أن يستند على معيه أحدهم، أو يطلبه يدعوه.

يقول لم أشاهد في حياتي "تلفازًا" ولم أقتني شيئًا من وسائل التواصل الحديثة، فقط أستمع للإذاعة وأعشق "السيدة" فهي تسرح بي في عالم لا أعرفه، ولم أحلم به ولن أشاهده! أنا من مدرسة الواقع بما يصنفه عقلي الباطن، واستمتع به كثيرًا دون تزييف، فكل ما حولي يدعو لذلك. في أحد الأيام عكفت على قراءة موسوعة حتى اغشي عليّ وأنا أتلذذ وكأني في بستان أقطف ثماره، فآكل هذه وأتصدق بتلك، حتى أضحيت من يوم لآخر في نشوة بلغت حد سكرة العاشق في نشوتها!

مرت أيامي وكأنها سويعات بعد أن أصبحت أمقت النقد وأترفع عن الجدل، علمتُ الفارق بينهما فتساوت بعد أن تفرّق الناس، وتربّع الصغار على موازين كبارهم، فغدت الجداول أنهارًا تسقي حطامًا يابسًا، وتشيح بطرفها عن حلة خضراء، تُساق لها قلوبٌ وتُذبح على أحواضها شوارد الأنعام.

من نوادره الكثر أنه كان أحد أصدقاء طفولته يدعوه إلى بلاد المهجر ودول العالم "الأول"، فكان رده "أما كفاك غسيل يديك حتى تغسل أطباقهم ثم تمسح لسانك بأطراف ردائي"! فلن أبرح موطني ولن أضع جبهتي على  تراب أرض غيره!

عنواني كتبته ولن أستطيع تغييره، نُقِشَ على تجاعيد جبهتي وسقاه عرق جبيني، حبًا وولاءً.

تخليتُ منذ زمنٍ عن صنع الأهداف، فتحررتُ وتسارعتْ أفكاري.. مكنوني لم أعد أخفيه وسلطة الآخرين لا تعنيني.. العبودية ليست جسدًا يملكه؛ بل أفكار يلجمها فيترجمها سيدك فتنحني دون أن تأمر.

ثم يقول: عهد قطعته على نفسي: أن أسير في "جنازتي" وحدي شفقه على قاطعي الطريق من حمل لم يدركوا ثقله.

لم أعد أحدق بالآخرين قدر تحديقي بموضع قدمي فسهل مسيرى وطمأنت نفسى ورضيت بما قدر لي. آمنت بأنَّ التاريخ لا يعيد نفسه من هنا أسقطت كل نظريات الاستعداء، فكبر وجودي وشعرت بذاتي دون الحاجة لرفيق.

ختامًا.. ما تملكه بحق هو ما دفعت ثمنه، وليس ما استمتعت به، يُرددها دائمًا صديقي التركي.

ومضة.. المهم هو ما تعيشه وليس ما ستتركه!

يقول الأحمد: يتسابق الفتيان على مقاعد ليست لهم، ثم يكتشفون أن أرجلهم معلقة، فيحاولوا ملامسة الأرض بعد فوات الأوان.