خالد بن سعد الشنفري
من خلال هذه الأسطر، أرجو أن أنقل لمن لم يعش موسم الخريف قبل عصر النهضة العمانية المباركة، ولقد انتقيت عادتين تتكرران كل موسم حتى أصبحتا عرفا جاريا يتقاسمه سكان المدن والمناطق الساحلية من ظفار مع إخوانهم سكان جبالها. وبحسب ما تسعفني به الذاكرة الصغيرة آنذاك، وما أشرت إليه عنوانا أعلاه لمقالي هذا، فإن الجيرة والمقايضة من أهم العادات الرائعة التي كانت بين المجتمع الظفاري خلال هذا الموسم.
كان لكل أسرة أو عائلة من المدينة أسرة مقابلة في الجبل ويطلقون على بعضهم البعض مسمى الجيران، وكل منهما يصف الآخر بأنه جاره.. علاقة إنسانية في منتهى الروعة والحب والتعاون؛ بحيث تذهب أسرة المدينة إلى جيرانهم في الريف للإقامة معهم وبالقرب منهم طوال موسم الخريف الماطر، ولا يعودون إلى المدينة إلا بعد انتهائه في أشبه ما يكون برحلتي الشتاء والصيف التجارية.
يتوجَّب على الجار في الجبل أن يهيئ مسبقا لأسرة جاره القادم من المدينة مكانًا للإيواء والإقامة، والتي تتمثل فيما يسمى بـ"الستريت"، وهى عبارة عن غرفة دائرية أكبر من الخيمة قليلا تتكون أساساتها من جدار سميك من أحجار الجبل بشكل دائري بارتفاع متر تقريبا فوق سطح الأرض للوقاية من الحشرات والهوام والبلل من الأمطار وتسقف بأخشاب الأشجار المعمرة كالسغوت (الميطان)، ويغطى سقفها بطبقات من الحشائش اليابسة.
كما يُخصَّص لهذا الضيف الجار وعائلته عدد من الأبقار لحلبها والشرب من لبنها، والمتبقى منه لاستخراج السمن البلدي (سمن خرفي) أجود منتجات السمن طوال العام لنقاوته وزكاوة رائحته.
يحمل الجار ابن المدينة وعائلتة كمية السمن عند عودتة نهاية الخريف إلى المدينة، والتي تتراوح عادة بين تنكتين من السمن وزن الواحدة 20 لترا أو ضعفها أو أكثر أو أقل، تكفية مؤونة إلى الخريف القادم، وقد يبيع منها بدوره إضافة إلى ما أسهم به في زراعة محاصيل الموسم.
وفي مقابل ذلك، يستضيف الجار ابن المدينة وعائلته الجار الريفي وعائلته في بيته في موسم الصرب، وهو موسم الحصاد عادة في المدينة، وموسم الفتوح الذي تستقبل فيه السواحل السفن التجارية وتنشط التجارة والاستيراد والتصدير، بعد أن يهدأ بحر العرب من زمجرته أثناء الخريف، كما أن فصليْ الصيف والشتاء بعد الخريف يُعتبران من أهم المواسم لصيد سمك السردين (العيد) الوفير وتجفيفه غذاء الإنسان والحيوان وسمادا للأرض الزراعية.
يعود بعدها الجار ابن الجبل إلى ريفه ومراعيه، محملا بتموينه من المدينة من جاره ليكفيه لأشهر قادمة حتى يحين موعد الخريف القادم، وتتجدد الدورة الحياتية نفسها في حب ومودة ووئام على الجميع دون أن يستغل أي طرف منهم خيرات منطقته ومواسمها الإنتاجية لوحده فيستفيد منها الجميع.
ما أجمله وأروعه من تعاون وتبادل ومقايضة.. يسودها الحب والوئام.
التنقل بالرقايا:
الرقايا كلمة دارجة ظفارية مشتقة من جذر عربي وهو الارتقاء على الأرض وهي أحد مسميات الهودج العربي على ظهر الجمل أشبة بالمحمل؛ به مقعد أو مقعدين وأحيانا سرير لنقل النساء والعرائس وأيضا المقتدرين والمرضى
وله عدة مسميات عربية منها المركب، الظعن، الجحالف، العمارية كما يختلف في تصميمه بين كل منطقة عربية، والرقايا في ظفار قديما تطلق على الجمل وما عليه من رقايا وتجلس عليه- عادة- اثنتين من النساء واحدة في كل جانب وقد غرس بجنبها وتد تتمسك به وتتهادى بهن الرقايا بتؤدة.
يزداد دور الرقايا في الخريف لنقل النساء والأطفال على ظهورها من المدن إلى الجال والعودة، وأيضا تنقل النساء في مناسبات الأعراس التي تزداد في موسم الخريف خصوصا بين المناطق سواء للمشاركة في العرس أو الفرجة وخصوصا أيام ما يعرف بتخويد النساء في العرس، حيث تبرز فيها العروس للنساء وما يصاحب ذلك من طبل النساء الذي تتشاركن فيه من الفريقين الزوجة والزوج وهي أيضا مناسبة لظهور العذارى لأول مرة للوقوف والمشاركة مع العروس ليشاهدهن عن قرب وهن في أزهى زينتهن، ومن ترغب من الأمهات أو الأخوات في ترشيح أو اختيار زوجة لقريبهن، فمثل هذه المناسبات تعتبر وسيلة للتعارف والتزاوج بين الأسر والعوائل.
أصحاب هذة الرقايا أناس متخصصون في تجهيز وقيادة الرقايا وهم ممن يتوسم فيهم الحرص والأمانة ومعروفين لدى أحيائهم التي يعيشون فيها ويمارسون مهام عملهم، هذا بالطبع مع دور الجمل في ظفار عموما في النقل والحمول، فعلى ظهورها قد تم نقل ملايين وأطنان الأحجار التي بنيت بها كل بيوت وقصور مدن ظفار الساحلية من سدح الى ضلكوت رغم وزن هذه الأحجار الكبيرة التي لاتستطيع أقوى الجمال من حمل أكثر من عشرين حجارة منها، وأيضا دورها في نقل الطين للبناء أو الزراعة وعملها الموسمي في نقل الساردين من الضواغي للتجفيف فى الأماكن المخصصة لذلك ونقلها بعد أن تجف لمراكز التسويق والمستخدمين لها سواء في علف الأبقار أو تسميد الأراضي الزراعية وتحميل الأحطاب عليها من الجبل بعد قصّه وتهذيبه بأطوال متناسقة ليصبح منظره على الجمل أشبه بالخيمة أو الهرم المصغر.
كل خريف والجميع بسعادة وسرور
كل موسم خريف وأنتم بخير وسعادة