الأمم الأخلاق (12)

 

 

 

د. صالح الفهدي

هدم الأسرة

يقول عالم الاجتماع المغربي المفكر الدكتور مهدي المنجرة (1933-2014) نقلاً عن أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث: اهدم الأسرة، اهدم التعليم، اسقِط القدوة. ولكي تهدم الأسرة عليك بتغييب دور الأم، اجعلها تخجل من وصفها بـ"ربة بيت"، ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلم، لا تجعل له أهميةً في المجتمع، وقلِّل من مكانته حتى يحتقره طلابه، ولكي تسقط القدوات عليك بالعلماء، اطعن فيهم، شكك فيهم، قلِّل من شأنهم، حتى لا يُسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد، فإذا اختفت الأم الواعية واختفى المعلم المخلص وسقطت القدوة والمرجعية؛ فمن يُربِّي النشء على القيم؟".

من نافلةِ القولِ أن هذه الخطة نراها تتحقَّقُ في واقعِ مجتمعاتنا، بل وتُفرضُ فرضاً عليها، فالأُسرة التي هي نواةُ المجتمع التي يُنشأُ منها قد تلاشت مفاهيمها في الغربِ فأصبحَ الزواجُ شذوذاً عن القاعدة، ونسلُ الأَبناءِ مجهولاً في الغالبِ، والأُمَّهات العزباوات (single mothers) يلاقين الدعم الحكومي، والتشجيع بالعلاوات على زيادة الإِنجاب بأيَّةِ طريقةٍ كانت، والشذوذ الجنسي أصبحت له قوانينه التي تعاقب كل من يتجنَّى على أصحابه، والمتاجرة بالأجساد أصبحت مهنةً من المِهنِ المُقنَّنة، فاختلط الحابلُ بالنابل، ولم يعد المجتمع مجتمعاً بالمعني الإنساني الفطري بعد أن فَقَد الأُسرة النواة.

ومع تغيِّر نمط الحياة في مجتمعاتنا وخروج الرجل والمرأة للعمل تأثَّرت تربية الأَبناءِ، وزاد على ذلك الأسلوب الحياتي لكلا الوالدين، وانشغالهما عن الأبناءِ، وضعف مفاهيم التربية للمقبلين على الزواج مما رفعَ معدلات الطلاق الذي أصبحَ مجرَّد كلمة سهلةٍ تطلقها اللسان في حال (مَزاجٍ متعكِّر)..! دون أن يتذكَّر الرجلُ أنه قطع عهداً أمام الله والناسِ حين عقدَ قِرانهِ: "على حكم كتاب الله المُنزل وسنة نبيِّه المُرسل صلى الله عليه وسلم وعلى حسن العشرة عندها وجميل الصحبة لها ورفع الإساءة عنها وأداء اللازم والواجب لها، وعلى إمساكٍ بمعروفٍ، أو تسريحٍ بإحسان".

إنَّ تزايد حالات الطلاق في المجتمع يعني في جانبٍ منه نسيان ذلك العهد الذي قطعه الرجلُ حين تزوَّجَ، وهو عهدٌ لا يجوزُ نسيانه لأنه عهدٌ مع الله قبل أن يكونَ عهداً مع الناس نتيجةً لهوى زائغٍ، أو لمزاجٍ متعكِّر!

من جانبٍ آخر، فإن التهديدات التي تواجه التربية جد خطيرة، فمصادرها مختلفة وكلُّها ذات أثرٍ خطيرٍ على الأَبناء، إذ لم تعد الأُسرة هي المصدر الذي يُربِّي بل تداخلت عناصر للتربية منذ بواكير الأعمار ابتداءً بالألعاب الإلكترونية التي يظنَّها الوالدين مسلِّيةً للأبناء في حين أنها محقونةً بالأفكار تغذِّيها العقول الصغيرة في براءةِ طفولتها، ومروراً بالمواقع المختلفةِ على الشبكة العنكبوتية، والتطبيقات المتنوعةِ، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذا الحقل الذي يشبه المتاهة نشأت الأضاليل، والأكاذيب، والجرائم، وكثرت الأحابيل التي تصطاد البشر نحو مصائدها الشيطانية الماكرة.

القدوةُ في التربية هي الأُخرى تضاءلت لأسباب مختلفةٍ، فأصبحت قدوات الأبناءِ خارج البيت أو في العالم الافتراضي، فتمثَّلوا أخلاقياتها، واقتدوا بنمط حياتها، وأسلوب تفكيرها، واقتفوا أثرها دون أن يُدركوا الغايات التي تريدها تلك التي ينادي بعضها بالحريات والحقوق والمساواة وغير ذلك حتى انتهت حياتهم في هوَّةٍ سحيقةٍ من المجهولِ وهم يلومون المجتمع على ما يظنُّونه كبتاً وقمعاً للحريات والعقول!

المنظمات الدولية تقودُ حملةً شعواء لهدم الأُسرة منذ أن نشأ منظمة حقوق الإنسان وهذه الحقوق الوضعية ترمي إلى رفعِ الحدود عن الحريات وترك الإنسان ينزلقُ إلى الحضيض، وقد وثَّقت الدكتورة كاميليا حلمي محمد "المواثيق الدولية وأثرها في هَدمِ الأُسرة: بدايةً من تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 وحتى مطلع عام 2019م" في مؤلَّف ضخمٍ تناولت فيه شتى المواثيق الدولية التي قصدت هدم الأُسرة، وقد جاء في مقدمة الكتاب أنه "قد بلغ ذلك الإكراه مداه بإجبار البرلمانات والمجالس التشريعية على تقنين منظومة الفوضى الجنسية بكل مفرداتها وتفضيلاتها، وأدوات حمايتها القانونية والقضائية، وإعادة هيكلة وظائف المجتمع بكل شرائحه وفق المنظور الجندري القائم على إلغاء ثنائية الخلق البديع من ذكر وأنثى، وإحلال كائن افتراضي مضطرب اسمه النوع الاجتماعي مكان الثنائية المذكورة، والعمل على تصفية المؤسسة الأسرية الحضارية بإغراقها في مستنقع فوضى الأدوار وحرية التصرف بالجسد، وحرية قتل الأجنة، وضمات تيسير الإباحية المطلقة، مروراً بتحكم الأبناء بالآباء والأمهات على السواء، وصولا إلى تكريس الفواحش، ومنها الشذوذ الجنسي، وتغيير الجنس تحت عنوان اختيار الهوية الجندرية".

وتضيف الكاتبة: "وإننا نتساءل: كيف تَمنح مواثيق الأمم المتحدة المرء حق اختيار جنسه وحرية التحول الجنسي في حين يجري حرمان شعوب كاملة من حقها في اختيار التشريع الرباني الذي تؤمن به؟أ وماذا يتبقى من ضمانات لإنشاء أُسرة بعيدة عن الكرورونا التشريعية الفاتكة؟!".

أخلصُ إلى القول بأنَّ الأخطار التي تتعامدُ على هدم الأُسرة مؤثرةٌ وقوية، وعلى جميع المؤسسات المسؤولة أن تستنفر قواها لتقوية عناصر الأُسرة، وتمكينها من التماسك والتلاحم، والحفاظ على كيانها من التشظِّي والتشتُّت والانهيار، وعلى الوالدين إدراك ما يتهدَّد كيانهم الأسري من مخاطر، ويعوون أثرها عليهم وعلى مستقبل أبنائهم ومجتمعاتهم.