التسامح بين التوسط والمبالغة

د. إسماعيل بن صالح الأغبري                        

الأصل بين الأمم والشعوب والدول التسامح وغض الطرف عن بعض الاختلافات التي لا تمس الأمور السيادية المعنوية والحسية كالإيمان العقائدي والسلوك الأخلاقي وحدود الدول واستقلالها السياسي والثقافي.

والتسامُح والمرونة بين الشعوب والدول ضرورة، وإلا لاشتعلت الشرارة في هذا العالم مترامي الأطراف، وقد ترتبط دول بحدود بحرية واتفاقيات تنظم سبل الصيد فتقتحم سفن دولة من غير قصد حدود بحرية لدولة مجاورة، وقد يتجاوز صيادو دولة الحدود البحرية لدولة أخرى، وهنا يكمن التسامح بعدم التصعيد، ولا إحالة المتهمين لأروقة القضاء، وإنما يتم حل التجاوز غير المقصود عبر اللجان المشتركة.

وقد تتجلَّى المرونة في العفو بين الدول عمَّا يقع من هفوات وصغائر من قبل دولة أو أفراد من دولة، فتعمد الدولتان لتجنب التصعيد وحل الأمور وديًّا.

المرونة والتسامح بمثابة حبل الوصل بين الدول والشعوب، وهما بمثابة الجسر المتين الرابط بين هذه الدول والشعوب؛ فالحدود متداخلة، وبين الشعوب صلات، وبين هذه الدول روابط ومنظمات وهيئات كدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والاتحاد المغاربي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الأمم المتحدة، وتوجد اتفاقيات بينية سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية؛ لذا فالتسامح ضرورة والمرونة من لوازم العيش المشترك.

هُناك شعوب بسبب طبيعتها الجغرافية، أو تكوينها النفسي أو الفسيولوحي، ذات طبيعة خشنة تجاه الآخر، وهذه الأمم تحتاج مزيدًا من برامج الترويض، كما تحتاج إلى جدول زمني يمكن من خلاله تليين المتشدد وترويض النافر ليكون أكثر قبولا بالآخر.

بعض الأمم طبيعتها جافة المعاملة، غليظة تجاه الآخر، قاسية الأحكام، فهذه تحتاج إلى حقن كثيرة حتى تبلغ العيش المشترك والمرونة والتسامح.

لا شك والحالة هذه إعداد برامج المرونة قالبها والتسامح لُبها بلوغا للعيش المشترك من ضروريات وواجبات الدول لتضمن سلامة من يقيم على أرضها أو يفد إليها سياحة وتجارة وسفارة وقنصلة واستجماما واقتصادا وتنمية، كما أن برمجة الخطابات تضمن للدولة علاقات حميدة مع الإقليم والعالم.

أمَّا إن كانت الدول -أي دولة- لا تُعاني من شعب شديد المراس على غيره ولا عدواني تجاه شعوب أخرى بل الشعب فيها ميَّال بطبعه إلى المسالمة، ونزَّاع بفطرته إلى المرونة، يشهد له ما عاش معه أو اختلط به، وتشهد له كتابات الرحالة والجغرافيين الذين زاروه في أزمنة غابرة، ويشهد له سياسيون مختلفون بأنه شعب لا يُكن للآخرين عداء، ولا يعتمد الإقصاء ولا محاكمة الآخرين على أسس عقدية أو مناهج سياسية مغايرة لمنهجه، فإن المبالغة والحال هذه في خطاب المرونة والتسامح قد تأتي بثمار مرة على الدولة والشعب معا.

... إنَّ المبالغة في خطاب التسامح وتعميقه في نفوس شعب بطبعه مُتسامح مرن، ليس مُتنمرا ولا نارا حارقة للآخرين، ولا يفتعل مشكلات مع دول أو شعوب، سواء في بلاده أو كان مسافرا سياحة واستجماما أو دراسة، سيكون لهذا الخطاب آثار سلبية في الشبيبة الناشئة والمستقبل المنظور إليه أو البعيد.

صار خطاب المرونة والتسامح مبالغا فيه جدا جدا، وكأن هذا الإنسان وحش كاسر وأسود مفترسة تهاجم كل مغاير لها، فنجد الخطاب على هذا المنوال في الإعلام والمناهج التربوية والندوات والمحاضرات والموتمرات واللقاءآت، وفي الأناشيد والأغاني والترنيمات، وفي الإعلانات، حتى يخيل للزائر أنَّ هناك حربا ضروسا تخوضها المؤسسات من أجل ترويض متوحش! بل صار بعض من الخارج يعتقد أن ما عليه بعض الشعوب حاليا من هذه الوداعة نتيجة خطاب الدولة وترويضا للشعب (أي دولة) .

معروف أنَّ المبالغة في أخذ الحقن أو تناول الأدوية أضعافا مضاعفة سيرتد سلبا على الجسد ويحطم خلايا المقاومة، ويأتي على كريات الدم البيضاء والحمراء، فيصير الجسد منهكا وهيكلا عظميا، تفتك به الأجسام الغريبة؛ لذلك ينصح الأطباء بعدم مخالفة وصفاتهم الطبيبة، وتجنب الإكثار من أخذ المسكنات والحبوب، كما ينصح بعض الأطباء بعدم الاعتماد على المراكز الصحية الخاصة مَخافة تناول الأدوية بشكل مفرط؛ مما يُؤدي لفشل كلوي حاد.

إنَّ الشعب الذي لا يُكفِّر من خالفه، ولا يهين من غايره، بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه وجنسه، والشعب الذي على مر تاريخه لم يعتد أو يهاجم غيره إلا إن كان صدَّ عدوان ودفعَ صائل على البلاد، لا ينبغي إعطاؤه جرعات مكثفة من خطاب التسامح والمرونة حتى لا يكون ذلك الخطاب كالحليب الذي اعتاد عليه منذ أن ولد فينتشر في جسمه ويغذي مخيلته.

إنَّ الدول التي تبالغ كثيرا في خطاب المرونة والتسامح مع شعوب مرنة بطبعها متسامحة بفطرتها ستجني مستقبلا آثار سلبية من ذلك، ومنها أنها ستخلق جيلا ناشئا لا يمكن أن تعتمد عليه عند اشتداد الأمر.

كما أنَّ المبالغة في ذلك ستؤدي للتفريط في كثير من القيم والسلوكيات بدعوى المرونة والتسامح، وبعدها ستحاول الدول إنفاق الملايين من أجل التقييم والتقويم والإعادة.. إنها كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فقد أدى خطابها المبالغ فيه إلى تلك النتيجة السلبية، ثم تنفق الملايين من أجل أن تُعِيد الناس إلى ما كانت سببا في انصراف الناس عنه.

إنَّ الدول التي تبالغ في هذا الخطاب حتى غدا الناس لا يستيقظون إلا ويسمعون عن التسامح في البرامج، ولا يتوجهون إلى الكليات والجامعات والمعاهد إلا ويفطرون عليه، ولا يدخلون قاعات المحاضرات إلا وهو أيقونتهم، ولا يقلِّبون صفحات كتاب مدرسي إلا وتقع عينهم وأفئدتهم عليه، ولا يفتحون مذياعا ولا يشهدون تلفازا إلا ويتغذون عليه، ولا يشهدون ندوة أو محاضرة إلا ويشربون منه، إنَّ هذه الحال ستوصل هذه البلدان إلى درجة ترغب من الناس حفظ هويتهم، وعدم تقليد الآخرين، ولكن أنَّى يمكن ذلك وقد رضعوا حتى الفصام من ذلك الخطاب، وعليه منذ نعومة أظفارهم نشأووا، وربما عليه يشيخون؟

كيف يُحافظ هؤلاء على هُويتهم، ويحفظون شخصيتهم، وهم قد تم حقنهم بحقن كثيرة غيرت جيناتهم؟!

إنَّ الدول التي تحكم شعوبا مرنة متسامحة إلى أبعد الحدود، ومع ذلك تبالغ في هذا الخطاب وقد تعاني في المستقبل المنظور من وجود من يحمل همّ الدولة (أي دولة)؛ فلا ينتفض كما تريد الدولة، ولا يشتعل غيظا في سبيلها، ولا يحترق من التعرض لها، أي أن هذه الدولة قد تتعرض لسوء من غيرها، فلا تجد شعبا ملتهبَ المواقف أو يقف معها؛ لأنه ببساطة لا يرى ما تتعرض له بلاده (أي بلد) يذهب بسيادتها، بل سيقول جميعنا أخوة والأرض والسماء لله!!

إنَّ التوازن في الخطاب هو الأمر المحكم، وإن دراسة عواقب المبالغة في التسامح والمرونة حافظ لهوية الدولة (أي دولة) فكرا وجغرافية وسياسة.

والأثر السلبي الأكبر هو إذا امتد هذا الخطاب إلى القطاعات غير المدنية، والتي من المفترض أن تكون على أقصى درجات السمو بالوطن (أي وطن)، والغيرة عليه، ولو من دخول طائر دون إذن، فإذا تم اعتماد هذا الخطاب في هذه الدول بين القطاعات غير المدنية، فإن الضرر أكبر وأشد وأنكى.