العباس بن علي

جابر حسين العماني

jaber.alomani14@gmail.com

عندما نُريد الحديث عن العبَّاس بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فلابد أن نعلم أننا لا نتحدَّث عن شخصية عادية جاءت إلى عالم الوجود، بل نتحدث عن شخصية عظيمة أخلصت لدينها ومجتمعها؛ حيث تحلى العباس بن علي بالشجاعة والوفاء والإخلاص، وكان له الدور الفاعل في خدمة الإسلام الحنيف والدفاع عن المقدسات والأعراض، وكان سيد الوفاء والإيثار وقدوة الأحرار والثوار، قدَّم للأمة العربية والإسلامية الكثير من الدروس والعبر الأخلاقية والإنسانية التي جعلت من شخصيته المباركة نسخة مُماثلة من أبيه الخليفة العادل أمير المؤمنين وسيد العارفين الإمام علي بن أبي طالب؛ فجسَّد شجاعة أبيه وبسالته وأخلاقه وكرمه وإيمانه وثباته عند ملاقاة الأعداء، وقال في حقِّه الشاعر العراقي الكبير السيد جعفر الحلي رحمه الله:

بَطَلٌ تورَّثَ مِن أبيه شَجاعَةً

فيها أنُوفُ بني الضَّلالَةِ تُرغَمُ

مَاكِر ذُو بَأْسِ لَهُ مُتَقَدِّمًا

إِلَّا وَفَرَّ وَرَأْسُهُ اَلْمُتَقَدِّمُ

إنَّ لكل شجاع وغيور على دينه ومجتمعه أهدافًا وغايات يسعى لتحقيقها على الأرض، وهذا ما حققه وقام به العباس بن علي؛ وذلك من أجل الحفاظ على الإسلام والأوطان والمقدسات والأعراض والتخلص من الاستكبار والذل والمهانة والاستبداد، والسعي الحثيث لنيل الرفعة والمراتب السامية في طاعة الله تعالى وحده؛ وذلك من خلال المواقف البطولية التي قدمها والتي تعرضت لذكرها كتب التاريخ الإسلامي الأصيل والتي يعجز قلمي المتواضع أنْ يُعطيها حقها من الحديث والإشادة والتقدير والإجلال.

أيُّها القارئ الكريم؛ هنا سأذكر شيئاً يسيراً من المواقف الإنسانية والتاريخية والبطولية التي قدمها الفارس الشجاع والبطل المغوار العباس بن علي بن أبي طالب، والتي يجب أن نعتبرها اليوم وبكل فخر واعتزاز شهادة تقدير نعترف بها في حق العباس وشخصيته الإسلامية اللامعة التي قدَّمت للبشرية الكثير من العبر والدروس.

إنَّ العباس بن علي نذر نفسه لخدمة أخيه الحسين بن علي؛ فكان مثلاً عظيما للأخوة في الإسلام. أما الحسين فقد كان يحترم العباس بن علي ويُجِله ويقدره كثيرا، وفي هذا الجانب ذكرت المصادر التاريخية أنَّ الحسين لما أرسل العباس لمخاطبة الأعداء وإرشادهم ونُصحهم في واقعة الطف كان يقول للعباس: "اِرْكَبْ بِنَفْسِي أَنْتَ يَا أَخِي"؛ كم هي عبارة عظيمة وجليلة قالها سبط الرسول المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- في معنى الأخوة في الإسلام، والتي أراد من خلالها التعريف بمكانة العباس بن علي بن أبي طالب.

لقد ضَرَب العباس بن علي أجمل وأروع الأمثلة الأخلاقية في مدرسة الوفاء والإخلاص والإيثار؛ فكان جبلا شامخا عظيما من الوفاء والإخلاص والإيثار لأخيه الإمام الحسين، ونموذجا أخلاقيا عاليا يجب الاقتداء والاحتذاء به وبمواقفه المشرفة التي قدمها في طاعة الله تعالى ورسوله الكريم.

لقد كان لنبي الله يوسف -عليه السلام- إخوة عدة ذكرهم القرآن الكريم بـ"أحدَ عشَرَ كوكبًا"، لكنهم لم يستطيعوا الحصول على ذرة واحدة من وفاء العباس مع أخيه الحسين في واقعة الطف في شهر محرم؛ فمن تلك المواقف الخالدة التي خلدت شخصية العباس بن علي، الموقف الذي جسده عندما منع معسكر الأعداء ريحانة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الإمام الحسين وعياله ومعسكره من شرب الماء لثلاثة أيام متوالية، هنا تكفل العباس بجلب الماء لأخيه الحسين وعياله وأطفاله العطشى، وبرغم عطشه الشديد وثقل الحديد وحرارة الصعيد، خاض العباس معركته البطولية مع أعداء البشرية حتى وصل إلى نهر الفرات المحاصر من قبل الأعداء، فغرف بيده غرفة من الماء ليشرب، فتذكر عطش أخيه الحسين وعياله وأطفاله، وأنه واعدهم بجلب الماء إليهم، فرمى الماء البارد من يده ولم يشرب شربة واحدة حتى يسقي أخاه الحسين وأطفاله وعياله، فملأ القربة بالماء البارد وأراد حملها إلى أخيه الحسين وعياله وأطفاله وهو يرتجز قائلا:

يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني

وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني

هذا حسينٌ واردُ المَنونِ

وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ

لقد خاض العباس بن علي المعركة بقوة وبسالة وإخلاص ووفاء، دفاعا عن دينه وقيمه ومبادئه، وحماية لأخيه الحسين حتى قطعوا كفيه، واطفأوا عينه بسهم مسموم غادر، ومع ذلك كان همه الأول والأخير إيصال الماء إلى مُخيم أخيه الحسين وعدم التقصير في خدمته؛ لأنه كان يعلم يقينا أنَّ الحسين هو سبط النبي الأكرم وحفيده ومن أوصى به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن قال فيه: "حُسَيْنْ منِيَ وَأَنَا مِنْ حُسَيْنْ أَحَبَّ اَللَّهُ مِنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا"، وأنَّ الحسين يُمثل المشروع السماوي والأطروحة الإلهية في خدمة الإسلام الحنيف وحمايته والدفاع عنه يعني الدفاع عن الإسلام ومقدساته.

وأخيراً.. علينا أن نتتلمذ بين يدي العباس بن علي، ونقرأ سيرته المباركة بتمعن ودراية لنتعلم منه الكثير من الدروس في الوفاء والإخلاص والإيثار في زمن أصبح الأخ ينهش من لحم أخيه، والجار لا يُراعي حق جاره، والفساد الاجتماعي يستشري في جسد الأمة، كما أنها دعوة لقراءة سيرة شخصية خالدة من التاريخ لها أهميتها ومكانتها لمن لا يعرف عنها شيئا.