زهرة الجُثة و"البلوجر"

ماجد المرهون

يسعى الكثيرون في عصرنا الحاضر إلى تطوير أساليب ترويج فنية بطرقٍ مُبتكرة؛ سواءً على الصعيد التجاري أو الشخصي؛ وذلك من خلال ما يُعرض ويُقدم بغرض استهداف فئات متنوعة من المستهلكين، وأحيانًا شرائح محددة من المجتمع، وهذا الأمر معقولٌ من حيث المبدأ ومقبولٌ في حدود ثقافة أخلاقية عامة مُتفقٌ عليها بحسب الوعي الجمعي.

كان قانون الجاذبية استنتاجًا أكثر منه اكتشافًا، وذهب السير إسحاق بتوظيف أفكاره الرائعة حول هذا المبدأ بعيداً حتى صاغه في قوانين "الانيرشا" الشهيرة في القصور الذاتي وأبرزها الفعل وردة الفعل فيما بات يعرف لاحقًا بميكانيكا نيوتن السماوية، مع أن البيروني أثبت ذلك من قبل في القانون المسعودي.

إنَّ سعي الإنسان إلى تحقيق مكاسب من خلال الشهرة أمر مشروع، خصوصًا مع تطور أساليب الجذب وتحوره إلى شكل نمطي مع مساندة التقنيات الحديثة والعوامل المساعدة الأخرى والمؤثرة؛ حيث أصبح في متناول الجميع تقريبًا توظيف منافع التقنية للكسب، ومن البديهي أن يعتمد منتهج هذه الأساليب في تطوره على مبدأ الفعل الذي قام به، ورد فعل المتلقي، إضافة للمرونة في تقبل الملاحظات والنقد وحتى الشكاوى إذا ما أراد الاستمرار.

وقعت هذه التقنيات الذكية بأيدي البعض من الذين وظفوها بدهاءٍ في خدمتهم الشخصية، وبطرقٍ ربما هي أقرب إلى الغبية، غير مبالين بالقيم والمعتقدات السائدة والقوانين السماوية، ولا بردود الأفعال، فانفجر بنا قومٌ كنَّا لا نعتقد بوجودهم في المجتمعات المُحافِظة، وابتكروا لنا كل أساليب الجذب الواهية، والتي يفترض بها أن تكون منفّرة، فشذوا عن القاعدة حتى إذا حرروا مرَدَة قماقِمِهم السحرية على كل الصُعد وفتَّحوا أبوابهم، ما استثنوا شيئا.

زهرة الجُثة العملاقة تفرز رائحة الجيفة على عكس بقية الزهور، فتجذب إليها الحشرات القمامة.

في ليلةٍ حنْدَس، بعد أن تكثفت خوالجه وانشطرت بداخله نويات أفكار مُقنَّعةٍ بتصميم شخصيته الخاصة، على أن تكون ذات كتلة جذبٍ قوية، والتي سيلمع بها متميزا في أفلاك التواصل، يقوم أحدهم بتنصيب منصته الافتراضية ويبدأ فور انتهائه نهارًا ببث صيحاته جهارًا ليهُز بربع شنبهِ جماهير بائسةً يقتلها الفراغ، حتى يصل في مرحلة من المراحل إلى تقمص شخصية الغراب فينعق في قيلولة الناس، ويستمر بالعطاء مواصلاً مع ازدياد عدد المتابعين بين الغروب إلى منتصف ليلته المشرقة، فيلهث مخرجًا لسانه مع ازدياد ثقته بنفسه وقناعته بمضمون ما يُقدمه، ويؤكد له ذلك ارتفاع مؤشر الإعجاب ليغني فجأةً في لحظة تجلٍ بصوتٍ لا معهود ولا مستساغ، ويلقي قصائده وحِكمه الهادفة من وجهة نظرة، فتُلقى علينا كرهاً ويغثنا كسر الأوزان غثاً وضحالة المعنى لوعة وغثيانا.

بعد المكاسب التي حققها من الركم الكبير للمشاركات والشحن النفسي للمجذوبين بين متفقٍ ومعارِض، يتحول إلى "بلوجر" سليط متمتع بقابلية الحظر، ويصبح نجمًا نيوترونيًّا ذا قوة جذب هائلة تترصده مناظير فضاء "السوشيال"، ومؤثراً على كل ما هو أصغر منه، وربما الأكبر منه أيضاً، فيجذبهم إلى نقطة الحضيض.

تُطِّل في هذه الأثناء الزهرة السومطرية الصغيرة من الأرض، مشرئبةً بغضاضة عُنُقها إلى السماء، لتشاهد النجم الناشط المؤثر "الفاشي نست"، لكنها تتخذ سبيلاً آخراً في عالم الجذب؛ حيث تتراقص تارةً وتتمايل مع الرياح تارةً أخرى، وتتخذ لنفسها ألوانًا زاهية، وتبتكِر خطها الخاص بها لتتصيد الذباب والخنافس بإفراز رائحة اللحم المتعفن، ولا تجد الفريسة مناصاً من الانسياق وراء تلك الرائحة الجذابة، إلا أن تُستدرج لها طوعاً ويتبعها غيرها بلا وعي، ومع تكاثر المتابعين تتضخم الزهرة لتتحول عملاقاً يغاير "البلوجر" في كمية المكاسب بصرف النظر عن الأسلوب والمحتوى، بل ومقتنعةً بالأحقية في تكافؤ الفرص والأهلية لما وصلت إليه، وقد تلوح بين الحين والآخر بمياسمها الطويلة إلى حرية التعبير والعقاب لكل من شق عصى الطاعة.

رُبما يحدث تلاقح فكري بين زهرة الجثة والبلوجر النيوتروني، ليشكل تحالفهما ثقبًا أسود في عالم "السوشيال ميديا" تزداد معه قوة الجذب؛ بحيث يصبح أفق الحدث المحيط بهما مصيدة ضخمة لا ينجو منها إلا من كان لديه مقاومةٌ بقدرة إفلات تعادل سرعة الضوء.

إنَّ سلوك الإنسان بذاته إلى أوج الرفعةِ، والصفيح الأسمى ليس بالأمر السهل، وما أسهل سلوك الانحطاط إلى قعر السُّخف وحضيض الابتذال، وهما مسلكان لا يلتقيان؛ فالأول من أمر الرحمن، والثاني من تزيين الشيطان.

"واذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".

 

majidalmrhoon@gmail.com