فوضى الاستعمار الجديد!

حمد الناصري

لم تكتفِ أمريكا للانتقام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وانهيار البُرجين العالميين في أمريكا، بخلق الفوضى العالمية والاستيلاء على مُقدّرات الشعوب وسرقة أموالهم وثرواتهم، بل عَمدت -أيضاً- إلى الانتقام من العرب والمُسلمين أينما كانوا وحيثما ولُّووا أو وُجدوا.. تشغلهم في حروب دامية مع بعضهم البعض فلا يبرأ جُرحها إلى عشرات العقود من السِنين، ولا شكّ أنّ دَأبها المُستشيط بتأجيج الفِتْنة وإشعال المذهبية والطائفية ما هو إلا تمهيد لاستمرار دمار شامل في بلاد العرب والمُسلمين.

إنّ أمريكا تسعى بصورة وحشيّة لتصدير الصورة النّمطية عن الإسلام والمُسلمين في نظر الغرب وتصويرهم بأنّهم يُحبون القتل والموت والدمار لغيرهم. إنّ هذا السّعْي هو صِراع أيدلوجي تأريخي عميق وقديم، ضارب في تأريخيات الحِقْد اليهودي الأول "ولنْ تَرضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تَتبِع مِلّتهم". ورغم أنّ الديانتين اليهودية والنصرانية مُختلفتان، لكنهما مُتفقتان على أنّ المسلمين قتلة يُحبُّون الدّمار. أمّا الصّهْيونية العالمية البَشعة، فقد أُنشئت لتجميع أشْتات اليهودية وتحصين يهودية إسرائيل وتأمين مَوقعها في الشرق الأوسط الجديد برعاية أمريكا، ولتكون المرجعية اليهودية بأرض الميعاد.

فمنذ قديم الزمان والحركة الصهيونية لا يهدأ لها بال، وإنْ أظهروا سياسة المصالح والمنافع، لكنهم يسيرون على خُطى مرسومة لخلق فوضى يستطيعون من خِلالها السيطرة على العالم، فوجدوا أراضي العرب سانحة وديانتهم كأرض خصبة للانقسامات وإشْعال موجات التطرّف والعُنف، ففي ثورة الزعيم جمال عبدالناصر في مصر العروبة، عمدت أمريكا وبريطانيا لخلق فوضى في مصر، لوقف التمرّد السوفييتي من خلال تكوين وإنشاء جماعة إسلامية، عُرفت لاحقاً بالإخوان المسلمين؛ وذلك للحد من الأيديولوجية الماركسية، والتي كان عبدالناصر يُؤمن بفكرها، وقد آمن بها من أجل قومية عربية، يَعُم نفعها الناس جميعاً، وعمدت الوكالتان الاستخباريتان البريطانية والأمريكية إلى تمديد وجود الجماعات الإسلامية المسلحة لتصوير الإسلام على أنه دين عُنف وقتل ودمار؛ فأقامت تنظيم القاعدة في أفغانستان مدعومة بأموال عربية مُسلمة وبقيادات عربية ومُسلمة، ليس لأجل أنْ يكون تنظيم القاعدة أداة إرهاب ضدّ الاتحاد السوفيتي والماركسية؛ فالماركسية موجودة في الدول الأوروبية وفي آسيا وإفريقيا.

ولا يزال حقدهم على العرب والمسلمين لم يتوقف ولنْ يتوقّف.. فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 خلقت بريطانيا وأمريكا تنظيم داعش على غرار تنظيم القاعدة. وكانت الأرض الخصبة هي أرض العرب، أرض التاريخ وأرض عِز الدولة العثمانية والأموية والعلوية، في العراق وسوريا وليبيا وفلسطين.. ولم تستطع أنْ تنسى الصليبية هزيمتها على يد صلاح الدين الأيوبي، ولا حتى ثورة عمر المختار الراسخة، إنها سلسلة أحقاد صَليبية ويهودية صَهيونية، طفتْ على السطح، فـ"داعش" جسّدت همجية مقيتة ووحشيّة مُقززة، وأنتجت صُورة لهمجيتها ولتفريغ سُمومها الضاربة في أعماق ديانتها وما قامت عليه؛ فما حدث في مسجد نيوزلندا ليس ببعيد، وشَنق القائد صدام في يوم عيد كبير هيَ في حدّ ذاتها ردة فِعْل همجية.. وما الزعيم العربي مُعَمّر القذافي منِّا ببعيد.

إنها فوضى مُستهدفة لا يهدأ أوراها، بَل هيَ فوضى لتعميق الانقسامات إلى حدّ الخصومة المقيتة والبغض المقزّز؛ بإطار "استعمار جديد" وتلك الفوضى السوداء لحقت بالهند، كون أكثر من 8 ملايين مسلم يوجد بها، وعلى حدودها مُسلمون فاجتاحت فوضى الغرب ذلك المكوّن الهندي، فأحدثت شرخاً في جسد أمّته الهندية المُستقرة بين المسلمين والهندوس إلى درجة أنّ الهند سَنّت قانون مَنْع الحجاب، بينما الدستور الهندي يُجيز حرية ارتداء الحجاب.

لكنّ ذلك الشَر البغيض مُمنهج على ضوء مُخطط حاقد خَلّفته فوضى الاستعمار الجديد، وفاض دماره أقوامًا ساكنة بهدوئها وطالت انقساماته عددًا كبيرًا من الدول بأيدي المسلمين، إنها الصهيونية الحاقدة، فإنْ استفقنا من شرك الاحتراب هيّأت لنا احترابا آخر على قائمة الانتظار، حتى نكون في ضَعف من بَعد قوة وأنْكاثاً من بَعد عزم، وعلى نَقيض دائم وفَتل مُستمر.. إنها فوضى الاستعمار الجديد.

في عهد الرئيس الأمريكي أوباما، قال إنَّ أمريكا سوف تستغني عن نفط دول الخليج العربي، وهي إحدى لُعب الكلام: تضليل وممارسة، مُناورة ومُحاورة، كذب وتزوير.. ونظن أنهم يُحسنون صُنعاً ويفعلون الخير، لكنهم يحفرون بأفكارهم السوداء وجهودهم الجاحدة، بحثاً عن الاتباع وعن الإشباع؛ ويومئذ تحدّث أوباما عن اكتشافات أحفورية ستغيِّر حاجة أمريكا من نفط الخليج، وفي ذلك الوقت قال مُفتخراً: "اكتشافات أحفورية سوف تغيّر وجه العالم، من أمريكا" تلك القرقعة المُغلّفة بغبار صِناعة الكلام، نسمع ضجيجها ولا نرى طحنها؛ وإنما رأيناها في زيارة بايدن -الرئيس الأمريكي الجديد- للسعودية في يوليو 2022، حينَ امتنع الأمير محمد بن سلمان عن مُصافحة أكبر رئيس دولة في العالم، بأعظم رجل من صحراء مُترامية الأطراف، كان حصاداً أحفورياً جافا، وبدا باطن اللّقاء مُصفراً كخطّة بايدن، وانتهتْ بتحية لا سابقة لها، وبلا رحابة مُطمئنة؛ فبايدنْ غير المُرحب به في السعودية، تقبّل الإهانة من العربية الكُبرى ثمّ بَلعها لحاجته القُصوى لإضعاف الوجود الصيني وتمرير قبول إسرائيل في الوسط الخليجي بتعامل به تخفيف، كي لا تحلّ على إسرائيل كارثة إنْ تشدّدت السعودية الجديدة، وكأنّ الأمير السعودي يُوجه رسالة للغرب مَفادها: "قضيّتنا وأمْننا على المحك، فإنْ تجاهلتم إستراتيجيتنا فسوف نستمر بالبحث عن مُنطلقات جديدة ـ إشارة إلى روسيا". وتلك المُنطلقات الثلاثة من ثيّمات رجل السلام العظيم، السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- فقد أكّد على ثوابتها كأسُس للسياسة العُمانية ومُنطلقاً لبنائها واستقرارها، فكانت تلك مُنطلقات تمسّك بها لتحقيق نهجها القويم، بالمحبة والسلام، وتوطيد للاستقرار في مَنطقتنا وتأكيد نَهجها لزيادة النّماء وليسود الازدهار، ومُعالجة لأسْباب التوتّر في العلاقات الدوليّة وتعزيز التعايش بين المُجتمعات بحلّ المُشكلات بحكمة وبُعد نظر وقراءة للأحداث الإقليمية وتطوّراتها الدولية.

--------------

المصادر :

- قراءة في المشهد السياسي السعودي، للكاتب.

- مقال للكاتب أحمد الحنطي الباحث في الشأن الأمريكي.

- "الحركة الصهيونية العالمية.. صراع الأيديولوجية".

- الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي: المنطلقات والأهداف.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة