لأنَّ القراءة حياة

د. سليمان بن خليفة المعمري *

تشير بعض الإحصائيات إلى أن متوسط القراءة في العالم العربي يُوازي ست دقائق في السنة للفرد الواحد، وأن كتاباً واحدًا فقط يصدر لكل مليون نسمة في العالم العربي، بينما يصدر كتاب لكل خمسة عشرة ألف نسمة في العام الواحد في العالم الغربي. ونظرا للأهمية البالغة للقراءة، فإنَّ مثل هذه المؤشرات تستدعي من الجميع إيلاءها الاهتمام والعناية؛ لما يترتب عليها من نتائج وآثار على أفراد وشرائح المجتمع المختلفة، ويكفي للدلالة على أهمية القراءة أنَّ أول الأوامر القرآنية الكريمة وانطلاقة الوحي الإلهي الكريم لرسالة الإسلام الخالدة التي ارتضاها المولى عزَّ وجلَّ لتكون للبشرية كافة، ابتدأت بقوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق:1)، ولقد وعي المفكرون والأدباء ونوابغ كل عصر وزمان لأهمية القراءة وتبين أنها سلاحهم الأمضى في تحصيل العلم ونيل المعرفة وأنها سر حياتهم الدائمة وبقاء مآثرهم الخالدة، ولعل تطوافاً سريعاً في حدائق معارفهم ومآثر كلماتهم التي وثَّقوا بها تجليات أفكارهم النيرة عبر سيرهم الذاتية الممتعة التي تركوها لنا ما يُدلل على أهمية القراءة والثمار التي يمكن للقارئ النهم أن يجنيها؛ فكم أمتعتنا "قصة عقل" و"قصة نفس" لزكي نجيب محمود، و"زهرة العمر" لتوفيق الحكيم، و"الأيام" لطه حسين، و"أميل" لجان جاك روسو، و"حياتي والتحليل النفسي" لفرويد، و"ذكريات الطفولة والشباب" لآرنست رينان، و"الباب الضيق" لأندريه جيد... وغيرها، كما حفظ لنا التاريخ من التراجم والسير للعديد من كبار الأدباء والمفكرين الذين جعلوا القراءة والكتابة قرين العمر ورفيق الدرب وهم على رأي مستغانمي "ربما قرابة الحبر لديهم أقوى من قرابة الدم"، فأدهشونا وأمتعونا بذائقتهم الأدبية والفنية.

وقد سطَّروا العديد من الأقوال الخالدة التي وثقت المعاني النبيلة للقراءة، وما تتركه من أثر وبصمة لدى مُحبيها، ومن هذه الأقوال مقولة للعقاد بأنَّ "القراءة وحدها التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقاً، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب"، وقول مصطفى السباعي "لا ينمو العقل إلا بثلاث: إدامة التفكير، ومطالعة كتب المفكرين، واليقظة لتجارب الحياة"، وهناك حكمة صينية تقول: "اقرأ كتاباً للمرة الأولى تتعرف إلى صديق، اقرأه للمرة الثانية تصادف صديقاً قديماً"، وأخرى ترى أنه "بعد ثلاثة أيام من الانقطاع عن القراءة سيصبح الكلام بلا نكهة"، وغيرها من الحِكَم والمقولات والأمثال التي تحض على جعل القراءة أحد أهم سلوكيات الإنسان الواعي المُستنير.

كما تغنَّى الشعراء ونظموا القصائد في مدح القراءة والقراء، وعبروا عن اعتزازهم بالكتاب، وعدوه من المفاخر التي يفاخرون بها، فها هو المتنبي ينظم أروع الأبيات مادحًا الكتاب بقوله:

أعز مكان في الدنا سرج سابح *** وخير جليس في الزمان كتاب

ويصف الزمخشري جده ومثابرته وسهره الليالي في القراءة والمطالعة والعلم في قوله:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عناق

وتمايلي طربا لحل عويصة *** أشهى وأحلى من مدامة ساق

والحقيقة أن المخترعين والمستكشفين والعلماء والفلاسفة لم يكونوا ملائكة ولا شياطين، وإنما أناس عاديون مثلي ومثلك أخي القارئ درسوا وقرأوا وبحثوا وقضوا الليل والنهار في المعامل والمختبرات وبين الأوراق والصفحات، فمن كان يظن أن "فردى" الصانع الفقير الذي كان يعمل في تجليد الكتب أصبح من علماء الطبيعة بعد أن سمع محاضرة لـ"همفري دافي"، فأخذت بلبِّه وفكره، وتفتحت لها شغاف قلبه، فما لبث أن اتجه بقلبه وعقله وركز جهوده في هذا الفرع من العلوم فأضاف وأبدع، وأمثلة هذا وغيره من المجتهدين والقارئين والساعين كثير.

وبعد.. ولأنَّ القراءة حياة، فإنَّ على كل شخص أن يعي أهمية القراءة وضرورتها، وأن يُمارس فعل القراءة على الدوام، وأن يجعل القراءة جزءا أساسيا في جدوله اليومي حتى ينمي ملكة القراءة والمطالعة لديه فيحبها وتحبه، ولعل من الوسائل المعينة لذلك تخصيص وقت بشكل يومي للقراءة حتى ولو قبل النوم، واستغلال أوقات الانتظار واستخدام الكتاب المسموع، وقراءة الكتب التي تستهوي الإنسان خاصة في بدايات مشوار القراءة، وإيجاد هدف ومعنى يسعى له من خلال القراءة، وزيارة المكتبات ومعارض الكتب، وإيجاد مكتبة منزلية وتشجيع أفراد الأسرة على القراءة وممارسة القراءة في أماكن مريحة وهادئة واستشعار متعة القراءة وفائدتها، كما أنه من الأهمية التأكيد على الناشئة وطلبة المدارس أن يجعلوا من القراءة عادتهم التي لا يفارقونها، وسلوكهم الذي لا يحيدون عنه، ونشاطهم الذي لا يتركون ممارسته ليثمر ذلك في النهاية علماً ومعرفة وخلقاً وسلوكاً يفخرون به ويفخر المجتمع بهم ويكونون بحق طلبة للعلم جديرين بكل نجاح وتقدم وسؤدد.

وختاماً.. سُئل الفيلسوف الفرنسي فولتير عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: "الذين يعرفون كيف يقرأون".

 

* مهتم بقضايا الإرشاد الوظيفي

تعليق عبر الفيس بوك