ناصر أبوعون
Nasser@alroya.net
في هذه الحلقة نُواصل الحديث عن احتفاء الشعراء والقضاة الطائيين بالأمكنة التي عاشوا فيها وافتتنوا بجمال طبيعتها، وأبانوا عن عظيم ولائهم لها، وانتمائهم لترابها حيث كانت قطعة من عُمان الوطن الأكبر دالة برموزها ومجزوءاتها على مكنونات هذه الأرض الطيبة التي أنبتت من كل زوج بهيج في العلوم والبشر والشعر والحجر من أقصاها إلى أقصاها.
فهذا الشيخ القاضي هاشم الطائي بحر العلوم ونهر الكرم، وقد ران على قلبه حب الأضياف، والإيناس لانثيال الناس وانصبابهم على مجلسه من السادة والعوام، والعلماء والطلاب، وكان مريدوه وزواره على اختلاف مشاربهم أُسوة لا فرق عنده بين هذا وذاك؛ فبسط لهم يد السخاء، وباعد بين مصاريع (بيت الشريشة) فلم تُغلق يوما ليكون مأوى للقاصدين من أنحاء عُمان وخارجها إلى مسقط؛ ومما حكاه السيد سعيد بن هلال بن محمد البوسعيدي أنّ سبلة (الفوق) للشيخ هاشم وعائلته في "سيبا" بقرية بوشر كانت مركز ضيافة ومدرسة في آنٍ واحد؛ عامرة بالضيوف وتُقرأ فيها كتب الفقه وأصوله، مع العلوم النافعة والأداب والفوائد وطرائف الحكم وغرائبها المستطرفة.
أما عن هجرة أسرة الشاعر من سمائل (الفيحاء) إلى مسقط واستيطانها بقرية بوشر، فيرجع الأمر إلى نبوغ والده الشاعر القاضي عيسى الطائي، الذي نضج عقله الفقهيّ، فعبّ قلبه من معين الفقهاء الأوائل، واستضوأ فكره بأنوار الأقطاب الأباضية الأماجد، وأَشْرَبَ روحه الحَييّة من بحرالأحكام الشرعية للشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي، واستبصر على يديه فنون السياسة والدهاء، وتمثّل به في أحكام الشريعة والإفتاء؛ فجمع في شخصيته بين الفقه والشعر وعلم القضاء، واستوقد ذُبالة المجاهدة من جذوة الانتصارات العمانية في ذبِّ الأجنبيّ وطرده فاستعرت روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء فكان جديرا بأن يكون الساعد الأيمن لأستاذه السليميّ في أعمال القضاء.
فلما أجاد وعلا في العلم نجمه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، صار مساعدًا لأبيه في القضاء بمحكمة مسقط، ثم اعتلى منصة القضاء في ولاية مطرح، وانتهى بها المآل أنْ نصّبه السلطان سعيد بن تيمور قاضيا للقضاة، وأنعم عليه فأهداه بيت الفوق، ومزرعة سيبا المال في قرية بوشر، فدانت له الدنيا واستقرَّت به الحال، وأعقّبت له عقيلته الفاضلة خديجة بنت العلامة سعيد بن ناصر الكندي ثلاثة أولاد هم: حمود وهاشم وصالح، وهذا الأخير شاعرنا صالح بن عيسى الطائي الذي حكى عنه أولاده أنه كان دائمَ التَّغني بهذين البيتين شرفًا ومفاخرةً بأبيه وأجداده:
قصر رسى فوق الثرى وسما إلى
أعلى الطباق فلا يزال رفيعا
***
رتعت به من (آل طي) عصبة
ورثوا المكارم والعلوم جميعا
ثم تعاقب الأبناء والأحفاد، فكانت بوشر مسقط رأس الشاعر صالح بن عيسى الطائي، فتغنَّى بها في شعره وحمَّلَ مُفْرَدَتَها شحنات شعورية جمّة، تناثرت في صفحات مخطوطه الشعريّ وتداولتها الألسن في صدور المجالس، وبوشر من القرى التي مازالت تعجّ بالعديد من الشواهد التاريخية والآثار العمرانية؛ ومن يدرس المنتوج الإبداعي -خاصة الشعريّ- لعائلة الطائيين من الأخوة وأبناء العمومة والأحفاد وما خلّفته من تراثٍ أدبيّ، يجد بوشر حاضرة في كل زاوية من سيرهم الذاتية، ومنتصبة كسارية بحرية في كل مخطوط تاريخي، وعلامة مضيئة في مسيرة أبناء الشيخ القاضي عيسى الطائي: حمود، وهاشم، وصالح من عقيلته خديجة [الكندية]، وحمد، ورُقية من قرينته [ثريا الطائية]، وذراريهم. فها هو الشاعر صالح بن عيسى الطائي يبدأ قصيدة له بمقدمة طللية بالوقوف على بوشر، لا ذاكرا ما درس من آثارها، وإنما مستذكرا أيام الصِّبا وذكرى الأحبة.. يقول فيها:
أبرق لاح من صوب القصوف
غروبا فاستطال به وقوفي
***
ذاكرني الأحبة من قديم
وأرباب المكارم والضيوف
***
وبوشر مرتع الآبا بعصر
فلست ترى شرورا أو كخوف
***
وفي عصر ابن تيمور سعيد
تصان عن المفاسد والدفوف
ولم تكن ذاكرة بوشر خُلوًا من المعالم الآثارية؛ حيث تقلّب الشاعر صالح الطائي في ملاعب صباه هناك؛ بين أعمدة مسجد "النجار"، وهو من معالم القرن الثالث عشر الهجري، وكلما أنهكه التعب برّد حرارة جسده أيام القيظ المُحرِقة بالسباحة في "فلج بو سمان"، وكم تنسّم عبق التاريخ العمانيّ الزاهر في حوائط "حارة العوراء"، وتصعَّد ببصره متأملا في "برج ورولة"، واستمسك بجذوره المتأصلة في أرض عُمان الطيبة فانطبعت روحه بالتقاليد العُمانية الأصيلة المنبعث أثيرها طوافا بين البيوت والحارات من "سبلة فلج الشام"، ولطالما استبصر المجد المخبأ في حصن وقلعة "الفتح"، وكثيرا ما استنطق التاريخ الصامت في "بيت السيدة ثريا"، واستقرأ النفوس وحفظ سمات الشخصية العمانية في وجوه مرتادي "سوق بوشر القديم"، وكثيرا ما استظل من لهيب الشمس هو ورفاقه الصغار من بني الحسني: محمد بن حامد الحسني، وحميد بن ساعد الحسني، وصديق آخر يُلقّب بالأمير، ما بين الضحى والظهيرة تحت "سور السيد برغش".. وفي هذا يقول:
ذكرتني عهد الطفولة (بوشرا)
أيامه مرت كأحلام الكرى
وبحي (سيبا) كان مرتع أنسهم
نالت بهم شرفا وعزا أوفرا
"سبلة الفوق" في سيبل بوشر، والتي كانت بمثابة مدرسة علمية وفقهية، وحلقة علم يومية، لا تنفض مجالسها، ولا تخبو أشواق معارفها، ولا تنقطع أحاديث أعلامها، ولا تجف أفواه فقهائها تحت ظل شجرة وارفة الظلال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها بصحبة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري المفتي الأول في عُمان، وسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي الثاني، والقاضي خالد بن مهنا البطاشي، والشيخ سعيد بن حمد الحارثي.