سالم بن نجيم البادي
ليلة العيد.. وصلته رسالة منها بعد قطيعة دامتْ شهورا مرَّت وكأنها سنوات، كانت رسالة باردة وجافة ولعلها رسالة جماعية.
حدَّق في اسمها ورقم هاتفها، تشظَّت روحه، وداهمه الحنين، والليلة ليلة عيد ومطر، أحس أنَّه في صحراء قاحلة، ورياح حارقة تُثير الأتربة، وقد أصابه الذهول.. كل هذا تفعله رسالة باهتة في ليلة العيد، جاءت على حين غفلة بعد الهجر الطويل والإهمال بعد الاهتمام.
لقد أوقعته في شباك حبها، ولعبت بعواطفه ثم تركته فريسة للأوهام والظنون واليأس والرجاء.. في عودتها ذات شوق إليه يُداهمها فجأة، لكنها لم تفعل وربما لن تفعل.
كان حبه.. عذريا وشريفا، عفيفا وراقيا ونبيلا، وكان يحدوه الأمل في أن يُكلل بالزواج، وما بقي من كل ذلك غير ذكرى هزيلة، وردَّ على رسالتها ردًّا مقتضبا: "لقد أوجعني فراقك".
كانت مشاعره مضطربة، وقد اجتمع العيد والمطر والهجر والغياب، وثيمات التمني والوله والعشق والفقد، ومواكب فرح العيد والمطر.. كان يكتم شعوره بالحزن ويراقب الناس عن بُعد وهم يمارسون تلك الطقوس المعتادة في مواسم الأعياد، وقد صلى صلاة العيد وطاف على أقاربه مُهنئاً بالعيد.
زار المقبرة، وتوقف طويلا عند قبر أخته وهو يتلو أدعية للموتى، كانت أخته تحبه كثيرا، وكانا يلعبان معا، وهي ترعاه وتخاف عليه.. حكى لها ألف حكاية وكان ينظر يمينا وشمالا وهو يقف عند قبرها يخشى أن يراه أحد.. سوف يتهمونه بالجنون، فلا أحد يفعل هذا. هنا، لا أحد يزور القبور ويأنس بها ويتحدث مع الموتى. وبعد أن أنهى حديثه إلى أخته ذرف الدموع ثم انصرف.
يتقمَّص دور المجنون والغبي والساذج جدا، والفوضوي ويقوم بتصرفات تُثير الجدل ويمشي عكس التيار، ويمضي وحيدا في الطريق الآخر الذي قلَّ من يسلكه، ويمقت التزلف والنفاق والقيل والقال، وينفر من أصحاب الأقنعة الزائفة والوجوه المتعددة والمجاملات الممقوتة، والتدخل في شؤون الآخرين، ومع ذلك لا يسلم من الأذى وهو معتد بنفسه، لا يهتم لأحد، ولا يلتفت إلى الخلف، ويترك للآخرين تحليل شخصيته الغامضة والعصية على الفهم، وتأويل تصرفاته كما يريدون.. يقولون عنه متكبر ومغرور، وشخص غريب الأطوار، وانطوائي، وهو لا يُخاصم ولا يُجادل ولا يحقد.
يتحدثون عنه بسوء، ويظلمونه، وينشرون الشائعات الكاذبة عنه؛ لأنه لا يخالطهم، وهو يقابل كل ذلك بالصمت والإعراض.. يحتفل وحده وبطريقته الخاصة بالعيد والمطر، ويجتر الذكريات.. يريد الفرار من كل شيء، ويرغب في أن يرتاح قليلا، ولم يعد قادرا على خوض المزيد من المعارك مع الناس والحياة، وقد أعلن هزيمته الفادحة في ساحة الغرام بعد تجربته الأخيرة، ووجد في الوحدة مُتعة غامرة، وفي القراءة أسلوب هروب ناجعًا، وصار يشعر بالغربة والضياع والوحدة حتى وهو بين الجماهير الغفيرة.
وقد أدرك أن لا أحد يسلم من كلام الناس، ولم يعد يرغب في شيء إلا أن يكون هادئا وراضيا ومطمئنا.. بعيدا عن الناس.