د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
تقييم ملاحظات بوين
ذكرتُ في المقال السابق ملاحظات المستشرق الألماني بوين على مخطوطات مصاحف صنعاء المكتوبة بالخط الحجازي، وتعود إلى فترة مبكرة من القرن الأول الهجري، طبقاً لتقنية الفحص الكربوني 14.. وفي هذا المقال، أسلط الأضواء على تقييمي لهذه الملاحظات:
أولاً: فيما يتعلق بالملاحظة الأولى وهي ظاهرة حذف الألف في المخطوطات الحجازية المبكرة مثل: كلمة (سحر) وتقرأ (ساحر) و(قلوا) وتُقرأ (قالوا)؛ فقد أجاب عنها بوين بنفسه بقوله: أنها تفترض وجود تقليد شفهي لمعرفة القراءة الصحيحة. أي أنه يعترف بأن القراءة الشفهية المحفوظة هي الأساس، بغض النظر عن صورة الكلمة المكتوبة التي كانت تُقرأ يومها حتى بلا علامات تنقيط التشكيل (أي الحركات: ضمة، فتحة، كسرة، سكون، التنوين)، ولا تنقيط الإعجام (أي وضع نقاط بلون آخر على الحروف المتشابهة؛ مثل: الباء والتاء والثاء والجيم والحاء والخاء والعين والغين...إلخ)؛ فالقراءة الشفهية هي التي تحدِّد النطق الصحيح للحرف والكلمة، ولولاها لما أمكن التمييز بين الحروف والكلمات المتشابهة في مخطوطات الرسم القرآني في الفترة المبكرة؛ إذ يستحيل تمييز الباء عن التاء عن الثاء، ولا الحاء عن الخاء عن الجيم، وكلها بلا نقاط إلا بالقراءة الشفهية المحفوظة مسبقاً.
الأمر الجدير بالتوضيح هنا هو أن وجود مثل هذه الاختلافات في المخطوطات القرآنية المبكرة لا يُضير القرآن، ولا يقدح في صحة وسلامة نقله عبر العصور؛ لأنَّ المصدر الأول لحفظ القرآن ونقله متواتراً من جيل إلى جيل هو تلقيه حفظاً في صدور الآلاف بعضهم عن بعض وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار عن ظهر قلب في العبادات ومختلف المناسبات الدينية، خاصة في شهر رمضان؛ وذلك قبل وبعد الكتابة التوثيقية التي هي المصدر الثاني (الاحتياطي) للقرآن.
ثانياً: فيما يتعلق بالملاحظة الثانية؛ وهي: احتواء مصاحف صنعاء على قراءات كثيرة لا نجدها في المخطوطات المتأخرة.
هذه ملاحظة صحيحة، لكنها حقيقة مَعروفة عند علماء القراءات القرآنية، فابن الجزري صاحب كتاب "النشر في القراءات العشر" نصَّ على "أن القراءات المشهورة اليوم، أي في زمنه القرن التاسع الهجري، عن السبعة والعشرة والثلاثة عشرة بالنسبة إلى ما كان مشهوراً في الأعصار الأول، قل من كثر ونزر من بحر، ومن له اطلاع على ذلك يعرف علمه اليقين".
ثالثاً: فيما يتعلق بالملاحظة الثالثة؛ وهي: اختلاف ترتيب السور في مصاحف صنعاء عن مصاحفنا، وهي ما رأه بوين "اكتشافاً جديداً"؛ فهذه أيضاً حقيقة معروفة عند القدامى ونبهوا إليها، خاصة "أبوداود السجستاتي" -المتوفى 316 هجرية- صاحب كتاب "المصاحف"، الذي حققه وقدم له بمقدمة رائعة في تاريخ تطور قراءات القرآن من بدء المصاحف المختلفة في أيام الصحابة إلى المصحف الرسمي العثماني المستشرق الأسترالي د.آثر جفري؛ فقد ذكر اختلاف ترتيب السور عن ترتيب الرسم العثماني في عدد من مصاحف الصحابة؛ منهم: ابن مسعود، أبي بن كعب، علي بن أبي طالب، سالم مولى حُذيفة، ابن الزبير ومعاذ بن جبل... وغيرهم، وقد أشار بوين إلى هذا الأمر بقوله: "من وجهة نظر إسلامية، يُمكن لمعترض أن يقول بأن المصادر الإسلامية ذكرت أن عدداً من الصحابة امتلكوا نصوصاً قرآنية مختلفة عن المفروضة من الخليفة عثمان وأنهم مانعوا في التخلي عنها"، ثم إنَّ جمهور العلماء على أن ترتيب السور تم باتفاق الصحابة في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بخلاف ترتيب الآيات، فإنَّه توقيفي بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فوجود مصاحف بترتيب مختلف للمصحف العثماني لا يطعن في النص الموحَى، فماذا يضير مجيء الصافات بعد الشعراء أو قبلها؟ بدليل ما رواه البخاري من أن أعرابيًّا أتى أم المؤمنين عائشة يُريد رؤية مصحفها حتى يُؤلف سُوَر القرآن عليه، لأنهم يقرؤنه غير مُؤلف السور، فقالت له: وما يضرك أيه قرأت قبل؟، بل إنَّ هناك نسخاً من القرآن تمت طباعتها بترتيب مخالف للمصحف العثماني، كما فعل "رودويل" و"ريتشارد بيل" في ترجمتهما لمعاني القرآن مُرتباً بحسب النزول، مهما كان هذا الاختلاف؛ فهذا لا يعني أن هنالك قرآناً مختلفاً. يُتبع...،