عائشة السريحية
أقسم الجميع أنها أجمل حسناوات العالم، كانت الطيور تقسم على ذلك، حتى الفراشات حين تراقصت بألوانها حول خصلاتها المتناثرة، وقطرات المطر التي تدحرجت على خديها، ولوحة البحر التي عكست صورتها، والشجرة الباسقة في أعلى الجبل التي انحنت تعظيما لجمالها، لقد أقسمت أنا على ذلك أيضا، وأقسم سكان المدينة، ومن هم خارجها على ذلك أيضا.
لكنَّ ذلك المشهد المكتمل لم يكن كافيا، لم يكن جمالها حلًّا ولم يكن مشكلة أيضا؛ ذات يوم خسر أحدهم بضاعته في السوق، وشرع باتهام الحسناء، فلولا شامتها، لظلت النساء تشتري بضاعته، وعلق آخر أن الحسناء تهتم لمظهرها وتترك جوهرها لذا ظهرت الشامة، وردد الرهط "يا لقُبح الشامة في وجه حسنائكم"، واستمرت العبارات والأسباب تتوالى، وكتبت عبارة مطبوعة: "ليتها كانت كحسناوات المدن البعيدة دون شامة، فلا تؤذي عيون المحبين".
الناس في المدينة لم تعد تعجبهم تلك الشامة النابتة على خدها، زارت المدينة عجوز تلبسها عفريت الغيرة، فأشاعت في السوق أن حسناءكم معابة بشامتها؛ فغالَى البعض وزايد في القدح والذم، وصلبت أوتاد تدلت منها مطالبهم، انطوت تحت هاشتاج "#الشامة" آلاف العناوين، ومئات القضايا المطروحة في المجالس، وعشرات الآلاف من التعليقات المصلوبة على أروقة الإنترنت، وتصدرت همسات الكبار، والتقفها الصغار، ليرجموا بها على جهل كل ما هو جميل، تبادل الناس صورةً قُصت حول حدود الشامة، وتم تعظيم تعرجاتها، وبدأت الشامة تكبر يوما بعد يوم على أطباق الشرهين في الواقع الافتراضي، وتلقفتها الشياطين القابعة في أعشاش العناكب، وتجاهلوا جمال حسناء المدينة، وركزوا النظر على الشامة المعابة، بيد أن وجهها مضيء كبدر في ليلة تمامه، تمشي بوقار وسكينة، ترى انعكاس طهرها في مآقي المحبين.
وذات صباح، خرج حكيم أرهقه التفكير في شامتها، وأخبرهم أن الشامة ما هي إلا حسنة في وجه حسناء، ولا كامل إلا الله، فثار كثير من التائهين ضده، اتهم تارة بالعاشق الولهان، وتارة بالمحابي وأحيانا وصم بالمنافق، كان الصغار يرجمونه بصور الشامة، والمحللون يلتهمون التأويلات، وصرح بعضهم، أنها مرض أو سرطان سيقتل الحسناء ذات يوم.
النساء اللائي طالما شعرن بالغيرة منها، تدخلن أيضا في تهويل موضوع الشامة، وجلبن معهن أبناءهن، ويالهم من بارعين!
وكذلك فعل الناس من خارج المدينة، وشنق بحبل التهويل والتعظيم، حقيقة الجمال، وبني تمثال القبح؛ ليطوف حوله المغرضون، حزنت الحسناء وتحسست شامتها، وتجمهر الناس رافعين يافطاتهم، فلتسقط الشامة، فلتقلع الشامة، وهجموا بشفراتهم على وجه حسنائهم وحاولوا اقتلاعها بإيديهم، وحين ارتطمت ركبتيها، وكفيها، على أرض المعركة، سقطت وتدافع المصلحون ليقفوا حاجزا أمام أعداء الشامة، وتوصلوا لحل أن تقوم الحسناء بعملية تجميل، حسناءهم ذبلت، ولم تعد ترى في وجهها سوى الشامة، ثم قررت أن تنزعها من وجهها، بعملية جراحية، فقررت أن تستدين، واقترضت المال، وتحملت دفع الفوائد الربوية التي فرضها عليها كبير التجار من البلدة البعيدة؛ أليس اكتمال الجمال يستحق ذلك؟
أجرتْ العملية أخيرًا، فمرضت قليلا جراء انتزاع شامتها، وعانت من الألم في سبيل أن تُرضِي أحبتها، ولكنَّ سيوفَ النقد لم ترحم، فانطلقت عناوين جديدة: "الحسناء مريضة"، "الحسناء لم تتقبل عيبها فقلعته"، "الحسناء غير راضية عن نفسها".. وعاد الهجوم مجددا، وبدأت هي بالتعافي، وشع وجهها وأضاء، فأعجب البعض، وخرجت الشياطين من العالم السفلي وبدأت تبث في الناس، أن الحسناء مغرورة، وأنها بعد أن أزالت شامتها تكبرت، وأنها لم تعد كالسابق حين كانت الشامة عيبا فيها، ولم تعرف الحسناء ماذا عليها أن تفعل، فقد هدَّدها كبير التجار بأن ينتزع عينيها، إذا لم تدفع دينها، فكانت تعمل بصمت وهدوء، وتشققت يداها، وتقطعت قدماها، وهي تعمل آناء الليل والنهار، لتظل تلك الجميلة في أعين الجميع، الساكنة في قلوبهم، المتوجعة في صمت، والزاهدة في سكون، والراكدة وسط مشاحنات غيرها، تبتسم في وجه الجميع وتحتضنهم برمشيها، وتغمرهم بدفء صبرها، وأنى لمن يرى القبح أن يرى الجمال، وأنَّى للجاهل أن يعلم ما لا يستطيع فهمه بأي حال.
أكملتْ الحسناء تجمُّلها، وزُفت بأبهى حلة عروسا، تخطف الأبصار، واعترف بحسبها وجمالها، وحكمتها، ووقارها كل من على وجه البسيطة، وسيظل التعساء يبكون حظهم حول تمثال: "إن لم تجد عيبًا فاخلقه، وإن لم تجد شماعة فاصنع واحدة".