مصاحف صنعاء والمشككون (2)

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

ما حقيقة تصريحات المستشرق الألماني بوين؟

أنا حَسِن الظن بالمستشرقين عامة، أُقدِّر جهودهم، وأُقر بفضلهم في إحياء مخطوطات التراث العربي الإسلامي في مجالات علوم القرآن والحديث والتاريخ والأدب العربي، ومن الطبيعي عدم إيمان المستشرقين عامة بنبوة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم، ولا بسماوية القرآن؛ ذلك لا يقدح في كفاءتهم البحثية، ولا منزلتهم العلمية.

لقد أفدت من مناهجهم البحثية والنقدية للنصوص، فلست بالذي يبخس جهودهم؛ مصداقًا لقوله تعالى: "ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا".

عوَّدتُ نفسي على الفصل بين القول وقائله؛ فقد يكون القول حقاً في ذاته رغم خلافنا أو عدم محبتنا لقائله، لكن الحق لا يُعرف بالرجال بل يُعرف الرجال بالحق، وحتى أُنصِف المستشرق الألماني بوين في تقييمه لمصاحف صنعاء قبل تقييمي لملاحظاته، أوضح بأن هناك تصريحات متناقضة منسوبة إليه حول هذه المصاحف.

فما هي الحقيقة؟

أولا: فهو إذ يدعم استنتاجات المستشرق جون وانسبرو وتلاميذه أن القرآن الذي نعرفه لا يرجع إلى زمن النبي محمد، طبقًا لمقالة نشرتها مجلة "أتلانتيك" الأمريكية في يناير 1993م "ما القرآن؟" لتوني ليستر، جاء فيها: "فكرتي عن القرآن أنه، على الأرجح، كوكتيل من النصوص التي لم تكن كلها مفهومة حتى في زمن محمد. العديد منها ربما كانت أقدم بمائة عام من الإسلام نفسه، هنالك كم ضخم من المعلومات المتناقضة المتضمَّنة طبقة مسيحية مهمة، ومن الممكن للمرء أن يُكوِّن منها تاريخًا مُناظرًا للإسلام. يدعي القرآن لنفسه أنه مُبِين؛ أي واضح، لكنك إن نظرت إليه ستجد بعد كل عبارة رابعة تقريبا، عبارة خامسة لا معنى لها".

ويضيف: "إن المسلمين يقولون إن كتاب المسيحيين له تاريخ من التحرير والتنقيح، وينفونه عن كتابهم، لكن مصحف صنعاء يُؤكد تطور النص القرآني عبر الزمن؛ وبالتالي فإن له أيضاً تاريخا من التحرير والتنقيح كحال كتاب المسيحيين".

ثانياً: ما إنْ وصلت هذه التصريحات لليمنيين حتى ثارت ثائرة الصُّحف اليمنية؛ مما دفع ﺍﻟﻘﺎضي الأكوع للاستفسار شخصيًّا من بوين عن حقيقة تصريحاته.

فماذا قال بوين في رسالته للقاضي الأكوع؟!

أَرْسَل بوين وزميله في تحقيق مخطوطات صنعاء المستشرق "بوتمر" إلى ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ الأكوع رسالة تنفي صحة التصريحات المنسوبة إليه في المجلة الأمريكية جُملة وتفصيلاً، وأنها "ليس لها أساس"؛ أي أنكر أنه أدلى بهذه التصريحات للمجلة الأمريكية، لكنه لم يكتف بذلك، بل أكد أيضًا "وليس لها أساس فيما يخص المخطوطات الصنعانية"، وكرر: "ولا أساس لها بالنسبة إلى البحوث القرآنية التي نقوم بها أنا وزميلي الدكتور بوتمر"، بل إنَّه دافع عن مصاحف صنعاء؛ فقال: "المهم ولحسن الحظ لا تختلف هذه المصاحف الصنعانية عن غيرها في متاحف العالم ودور كتبه، إلا في تفاصيل لا تمس القرآن كنص مقروء، وإنما الاختلافات في الكتابة فقط".

الآن: من نُصدِّق: ما نشرته المجلة الأمريكية، أم رسالته للقاضي الأكوع؟

أنا أميل إلى الثاني:

 1- بوين نَشَر مقالة صغيرة "بعض الملاحظات على المخطوطات القرآنية المبكرة في صنعاء"، ضمن كتاب "القرآن نصًّا" لشتيفان فيلد 1996. ذكر فيها أنَّ ملاحظاته على مصاحف صنعاء لا "تزعم شيئاً جديداً".

وجاء فيها إنَّ ملاحظاته هي:

* حذف الألف: وهي ظاهرة معروفة في المخطوطات الحجازية مثل: بصحبكم = بصاحبكم، وسحر = ساحر، وكنوا = كانوا، وقلوا = قالوا، "أبوكم" و"أبَاؤُكُم" بلا ألف في المصاحف الحجازية، لكن القراءة الشفهية هي التي تفرق بينهما.

وفسَّر هذه الأمثلة بأنها "تفترض وجود تقليد شفهي لمعرفة القراءة الصحيحة"؛ أي أن قراءة القرآن عمدتها النقل الشفهي بغض النظر عن اختلاف الكتابات.

* القراءات: مصاحف صنعاء تضمُّ كثيراً من القراءات غير موجودة في كتب القراءات القرآنية؛ مما يؤكد أنَّ القراءات السبع أو العشر أو الأربعة عشر المعروفة اليوم هي أحدث مما هو موجود في تلك المخطوطات.

* اختلاف ترتيب السور: سورة "الصافات" تعقب "الشعراء"، وهذا مُخالف للترتيب المعروف، وظن بوين أنه "اكتشاف" جديد يتحدَّى القول بأن ترتيب السور توقيفي لا اجتهادي من الصحابة.

وفي المقال القادم.. تقييمي لملاحظات بوين.