الارتقاء بمنظومة الإحصاءات الوطنية.. ضرورة ملحة

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

"ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته".. هكذا تعلمنا وهكذا تمضي الحياة، ويتفق معي كثيرون على أن الإحصاءات التي تمثل ركيزة أساسية لرصد التقدم وفهم الظواهر المختلفة، ودعم متخذي القرار بما يحتاجونه من أدلة وبراهين علمية للاستناد عليها لفهم أنماط السلوك والقضايا الاقتصادية والاجتماعية وصياغة حلول لها، تمثل كذلك أساسًا جوهريًا لتخطيط وتنفيذ ومتابعة وتقييم التقدم المحرز في رؤية "عُمان 2040"، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإضافة الى كل هذا ترسخ الأرقام الإحصائية مبدأ المحاسبة والمساءلة والشفافية وتعزيز منظومة المتابعة والتقييم.

وبعيدًا عن العاطفة، يتطلب النجاح في المرحلة المقبلة، التي تتسم بتغيرات متسارعة، ضرورة استخدام معلومات قائمة على الأدلة، وتستند إلى إحصاءات موثوقة وعالية الجودة، لتشق عُماننا طريقها نحو رؤية جديدة، قائمة على تعظيم الاستفادة من الإنجازات، وربط مكامن القوة وتعزيز الفرص، بغية تحقيق نقلات نوعية من شأنها توسيع القاعدة الإنتاجية، وخلق فرص عمل، وتعزيز جهود التصدير، وجذب الكفاءات والعملة الأجنبية وتعزيز دور القطاع الخاص. ولتحقيق ذلك لا بد من الارتكان إلى ترسانة من الإحصاءات الرصينة.

ما زالت البيانات الإحصائية الوطنية في سلطنة عُمان، بعيدة عن المأمول، وبحاجة إلى الارتقاء بالمنظومة بشكل متكامل؛ كي نتمكن من الإجابة عن تساؤلات أساسيّة، فعلى الرغم من أن هناك تحسنًا في قواعد البيانات والإحصاءات المتوفرة؛ إذ ليس من المقبول، وبعد مضي 5 عقود من نهضة عُمان الحديثة، أن يُترك فضاء الإحصاء والمعلومات في أيدي وسائل التواصل الاجتماعي، دون وجود أرقام رسمية تُستقى منها المعلومة.

وهنا أتساءل عن إحصاءات لتعزيز دور القطاع الخاص وتحقيق نقلات نوعية في الاقتصاد. على سبيل المثال: كم تبلغ مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي؟ وكم تبلغ مساهمة الحكومة والشركات الحكومية وشبه الحكومية في ذلك؟ وكم تبلغ مساهمة القطاع الخاص في التكوين الرأسمالي؟ وكم تمثل النسبة الفعلية للباحثين عن عمل (معدل البطالة)؟ وكم عدد الشركات التي تدفع ضرائب؟ وهل بمقدورنا أن نعرف مدى تأثير الإنفاق العام في الاقتصاد المحلي وقيمة مضاعف الإنفاق ومضاعف الاستثمار؟ وما الحجم الحقيقي للطبقة المتوسطة، وما مدى تآكلها؟ وكم يبلغ معدل الفقر في عُمان؟ وما مدخلات ومخرجات الاقتصاد العماني؟ وهل الإحصاءات المتوفرة حول قطاع الخدمات كافية؟ وما الخدمات التي نستوردها؟ وما التي يتم تصديرها؟

مثل هذه التساؤلات، وغيرها، يتوجب عدم الخجل من طرحها؛ كي يتمكن المهتمون والباحثون والقائمون على صنع القرار من التعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية بطريقة علمية وعملية واضحة المعالم والخطط، خصوصًا وأن هذه القضايا باتت تؤرق المجتمع، وتحد من ثقة المستثمرين، وشركات التصنيف الدولي، فضلًا عن وضع تنافسية سلطنة عُمان تحت وطأة توقعات قد تكون غير دقيقة.

ونورِد على سبيل المثال: القصور الذي تعاني منه أهم البيانات، وأكثرها إلحاحًا، وهي بيانات الباحثين عن العمل، التي تحظى باهتمام مباشر من المقام السامي، لما لها انعكاسات كبيرة على مستويات معيشة المواطنين وعلى فئة الشباب بشكل خاص؛ حيث تشير أحدث البيانات الى أن معدل الباحثين عن العمل بلغ 2.1 فقط، خلال شهر مايو لهذا العام، وإذا ما سلمنا بهذا المعدل، فإنه يعني أساسًا أن ليس لدينا مشكلة باحثين عن عمل. وفي معظم الأدبيات الاقتصادية، فإن هذا المعدل يعني أن الاقتصاد يعمل بأقصى طاقته، ويسمى هذا المعدل بـ"معدل البطالة الطبيعي". ويكمُن القصور في هذا المجال في أمرين أساسين؛ الأول: طريقة الاحتساب التي تقوم على قسمة عدد الباحثين عن العمل من العمانيين على إجمالي قوة العمل (الباحثين والمشتغلين) من العمانيين والوافدين، في حين أنه تجب قسمة أعداد الباحثين عن العمل على قوة العمل العمانية فقط، حتى ندرك حجم المشكلة، وهي الخطوة الأولى في عملية البحث عن الحلول.

أما الامر الثاني، فإنه يتعلق بطريقة احتساب عدد الباحثين، والذي يقوم على أن عدد الباحثين عن العمل هم من يقومون بتحديث بياناتهم لدى وزارة العمل، ومن لا يقوم بتحديث بياناته فإنه لا يعد في عداد الباحثين عن العمل، بالرغم من تعطله عن العمل! ولنا أن نتخيل حجم الأعداد التي لا تقوم بتحديث بياناتها بسبب إحباطهم من الاستمرار في تحديث بياناتهم لسنوات دون أمل!! وهذه المنهجية مخالفة تمامًا للمعايير العالمية في احتساب معدل البطالة، والتي يجب أن تستند إلى "مسح قوة العمل" والذي ينفذ بشكل ربعي (كل 3 أشهر) أي أربعة جولات سنويًا، ويقدم بيانات تفصيلية عن معدل الباحثين عن العمل، ناهيك عن أهمية "مسح فرص العمل المستحدثة"، والذي يتم تنفيذه بشكل نصف سنوي. ويعد هذان المسحان من أهم المسوح المطلوبة دوليًا ومحليًا، والتي توفر بيانات ديموغرافية واقتصادية واجتماعية حول قوة العمل، وما يوفر سوق العمل العماني من فرص عمل والتي تساعد المخططين ومتخذي القرارات لاتخاذ القرارات السليمة التي تنعكس إيجابيا على المجتمع.

وفي قضية أخرى لا تقل أهمية عن معدل الباحثين عن العمل، فإننا لا زلنا غير قادرين على إنتاج بيانات الحسابات القومية، ومعدل النمو الاقتصادي بالأسعار الثابتة وعلى أساس ربعي، كما هو معمول في معظم دول العالم، وحتى الدول الفقيرة والنامية؛ حيث ما زلنا نصدر بيانات الناتج المحلي بالأسعار الجارية، والتي على أهميتها، إلّا انها لا تعكس الصورة الحقيقية لتطورات الإنتاج، وتعطي صورة غير دقيقة لصانع القرار عن معدلات النمو الحقيقية (بالأسعار الثابتة). ونشير هنا إلى معدل النمو الاقتصادي، بالأسعار الجارية، خلال الربع الأول من هذا العام والذي بلغ 25.7%، مع العلم أن جُلَّ هذا النمو مرده الى ارتفاع أسعار النفط وليس ارتفاع الإنتاج، وإذا ما تم احتساب مُقلِّص الناتج المحلي الإجمالي، فإن النمو الحقيقي قد لا يتعدى حاجز 3%. والتغني بمعدلات نمو جارية كبيرة لن يخدم أحدًا، وقد يؤدي إلى تضليل المجتمع وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، في ضوء تساؤلهم عن معدلات نمو كبيرة، في حين لا تظهر آثارها على حياتهم وأعمالهم!

هذه المسوح والإحصاءات المهمة، وغيرها، مهمة، في القطاع الخارجي مثل الأرقام القياسية لأسعار وكميات الصادرات، والأرقام القياسية لأسعار وكميات الواردات التي تعد ضرورية لاحتساب شروط التبادل التجاري، ومعرفة إن كانت تميل لصالح اقتصادنا أم ضده. إلى جانب الأرقام القياسية لكميات وأسعار الصناعات التحويلية والصناعات الاستخراجية، والقائمة تطول وتطول. كل ذلك مطلب ملح. وننتظر من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات- باعتباره الجهة المسؤولة عن إنتاج الرقم الإحصائي -وضع خطة زمنية عاجلة لاحتسابها ونشرها؛ للمساعدة في الوقوف على واقع التحديات والبدء في معالجتها مستندين إلى أدلة وبيانات دقيقة وموثوقة.

ويجب الإقرار بأن عدم توفر الإحصاءات الدقيقة لظواهر ومؤشرات مهمة، يُشكِّل قصورًا في المنظومة الإحصائية الوطنية، كما يجب الإقرار بأن هناك قصورًا آخر مرتبطًا بالقدرة على تحويل هذه الإحصاءات إلى معلومات يُمكن الاستفادة منها، ومن ثم توفير قراءة تحليلية واضحة ومفهومة للجداول التي يحتويها الكتاب الإحصائي للفئة المستهدفة؛ سواء أكانت شركات أو كيانات حكومية أو مستثمرين.

ومن المعلوم أن منظومة الإحصاءات الجيدة، تعكس الواقع الفعلي دون أي عمليات تجميل، فضلًا عن أنها تتسم بالشمولية، وتلتزم بالتوقيت المناسب، وتراعي الدقة والمصداقية.

وكل ما سبق يؤكد ضرورة دعم مؤسسات الإحصاء في سلطنة عُمان، وتطوير مهارات العاملين فيها، وتحسين أدوات وأساليب جمع البيانات وتحليلها؛ فعملية تحديد بوصلة الحلول للتحديات المختلفة، مرهونةٌ بما يتوافر لها من بيانات ومعلومات ومؤشرات إحصائية.