ناصر أبو عون
الشعر يُولد توأمًا للحزن في العراق؛ ويتبرعمان في سقيفة البيوت المظللة باليُتم؛ ويستبقان باب الفرح، ويَقُدَّان قميص الشعر من دُبُر القصيدة؛ بل هما نبيّان؛ حيث يكون الشعر سيف الحقيقة، ويستلّ اليُتم المنجل لِيجزُّ بِتلات الفرح قُبيل تورّدِّها على خدود الصبايا، وتفتُّح ربيعِ إزهارها في حدائق بابل المعلقة، ودروب وحارات العراق المترعة بالوجع.
أنا على مذبح المكاشفة، ولن أدسَّ وجهي في حجر الحقيقة لأتوارى عن الكذب، أو أئدُ بنات أفكاري خشية الإملاق النقديّ؛ فقد حاولت كثيرًا التفلّت من الكتابة عن إبداع الشاعرة العراقية رند الربيعيّ؛ ليس لحاجة في نفس الكاتب قضاها الشعر؛ ولات حين قصيدة؛ وإنما هروبًا من حالة التلبُّس بالحزن الذي يترصدني في كل زاوية من زوايا الإبداع الصادق، لا سيما العراقي منه؛ حيث تقبع تلال وأسوار من الوحشة المغلّفة بالحزن على طول المسافة بيني وبين قصائد الشاعرة التي تلازمني كظلّي، أحط رحالي في صور شعرية مكتنزة بالألم والاغتراب، وجراحات تسفح بالدم، تسيل في طرقات المعاني أخاديد تتسابق إلى نهر من الجمال، وكان عليّ أن أكشف عن ساقي حتى لا أغوصَ في بحرٍّ لُجِيٍّ من الوجع العراقيّ المعتّق في قوارير القلوب المكلومة؛ لكن هيهات مني التفلّت، وهأنذا أدخل ديوانها: "وأُقَشِّرُ قصائدي فيكَ"، فأحمل فوق أكتافي أثقالا من البكائيات تتدثر في حروفها، وتتخفَّى في المسافات القصيرة بين جملها الشعرية ما إنّ قصائدها لتنوء بسدنة النقد أولي النظريات المدججة بمصطلحات البلاغة الحديثة، وحينئذٍ كنت أجرُّ في قدمي تلالا من الرهبة، وأحمل بين يديَّ عشرة أوساق من الألم، وثلاثة أمداد من الكآبة.
في هذا الديوان ترعى رند الربيعي أيائل حزنها في حديقة "بودلير"، وتسرح بها في فيافي "ميغيل أنخيل أستورياس"، وتهشّ بعصاها على أساطير "ماركيز" التي أورقت أشجارَ يقطين عظيمة الأوراق، لتتوقّى بها الشاعرة ظلال شمس المعرفة الحارقة؛ وهي ترقب قصائدها تنضج على ألواح من الطين العراقيّ المقمور في أفران الفخار والمسكوك برموز مسمارية.. في الواقع هذه البنت العراقية لا تشبه أحدا، ولا تتقفى أثر الشعراء؛ إنها تشبه حزنها وفقط، والذي يتبدى جليا حينما نقرأ لها:
هات يدكَ
النعش مملوء
شلال جرحي ينزل جماجم
هيا اقفز قفزة واحدة
عند منتصف الجيوب الفارغة
في قلوب ما زالت أحاديثها كركرات طفل وخبزة فقير...
على قارعة وطن ضيق لا يتسع
للنوم
في هذا المخطوط الشعريّ، تعيش رند الربيعيّ الوجع العراقيّ في أجلّ صوره، وتخطُّ بأظافرها سورة الحزن على جلد القصائد، المُعشّقة بالعتاب فتتلوى من الوجع، ويسقط صراخا في بئر معتمة فيُحدث صلصلة وهو يهوي إلى قاع الجحيم؛ بل إنها في كل فاصلة شعرية تسند ظهرها على عتبات الانكسار وتستدر الدمع، وتمضغ الذكريات المشحونة بالألم، وفي مفتتحات النصوص تُلقي بشِصِّها في بحيرة الشعر لتصطاد المعاني التي تفتح فمها فتلقى حتفها، وهي تبوح للقاريء المشدوه والمنتظر على أبواب حديقتها الشعرية ليكرع من أمواه نهر الحنين الرائقة؛ لكنه يتفاجأ بجرعات من العشق المُمضّ الذي يخلع قلبه، عندما يسكبه في دنان روحه المتشعشعة بمزيج من النور والنار، فيتوقَدُ قبساتٍ من الحزن تفقأ بها الشاعرة عين الحبّ فتقول:
ما علّمتني،
ما حمّلتني،
ما مَنحتني المنافي إلّا عوزاً بارداً!
ليالي نافقة،
ألوان نورسٍ يُحلّقُ بجناحٍ مَكسورٍ
رغمَ عشقِ النهرِ
إذن، لا مفرَّ من الإقرار بأنّ رند الربيعي تعيش حالة من الاغتراب المكدود مقتطعة من مسيرة حياتها اليومية، ومجتزأة من المشاهد المكرورة التي تترى على تِتر سيرتها الذاتية أسفل قصائدها المتلفزة؛ حيث تأخذك بعيدًا، ثم تلقي بك في هُوّة من سِجيل، وتسبح بمخيلتك في الدرك الأسفل من المأساة، لتعيد بناء المعاني؛ فالسواقي والنواعير التي تجلب الماء وتحيي الأرض بعد موتها، وترافق أغانيها شقشقة الطيور، وترقص على أنغامها الحبَارى، وتشدو في حضرتها البلابل؛ تتحوّل في انزياحات الشاعرة اللغوية إلى نُواحٍ غِربان، وأنين بومٍ يضجّ بالألم، ويستبدل الشهد بالدموع، ويقايض الحنين بالخواء، ويرواد الفرات عن نفسه..
لا جدوى من فمٍ لا يعرف
عن حقائب مملوءةٍ بالوداع والرضا
عن النواعير تسكُبُ دُموعًا
بدلِ إغواء النهر
عن أسرّةِ الرُضّعِ
في مشفى اليرموكِ
عن عروس
تواجه الوحدة دون اكتراث
وفي الأخير.. جديرٌ التذكير بأنَّه عندما يتجول القارئ في حديقة رند الربيعي الشعرية ستقع عيناه على تناصٍّ هنا أو هناك؛ فتارة يكون التَّناص قرآنيًّا كما في قصة يوسف، وتارة أخرى يطلُّ التناصٌّ الشعري برأسه؛ عندما تستدرج الشاعرة الآباء الكِبار عربيًّا وعالميًّا إلى قُدّاسها لتتعمَّد بهم من خطيئة الشعر، وتتطهَّر من أدران المغايرة والتمرُّد؛ فضلا عن استقطابها لعلامات مضيئة من التراث والأساطير والتحاور معها ومزجها بالواقع المأساويّ؛ لتتبدى الواقعية السحرية في أجلّ صورها في ديوان "وأُقَشِّرُ قصائدي فيكَ".