ستة ستة

 

سارة البريكية

sara_albreiki@hotmail.com

 

مطبوع في عقلي وذاكرتي ووجداني وقلبي وأرفف ذكرياتي ومسافات البعد وحنين الأغنيات وأوجاع الألم الذي يعصر يدي اليمنى في هذه اللحظة وكتفي التي تبقى لي صالحة للاستعمال. أصبح ذلك يؤلمني كثيرًا، ودخولي بنوبة ألم؛ كمرض الأنيميا المنجلية الذي يعود مجددًا عندما أحزن.

يخطر على ذهني إعصار جونو والتجربة التي مررنا بها في ذلك الوقت، وصوت قصيدتي "إعصار جونو" التي تصدح عبر قناة "نجوم القصيد" وصوت أمواج البحر والرياح العاتية في ولاية صور؛ حيث بؤرة الإعصار وشدته، كوجودي الآن في ولاية صور والتي تهب فيها الرياح الشديدة والجو العليل. جوّها -على الأقل- أفضل من سماء المعبيلة الجنوبية؛ حيث الحرارة الشديدة والشمس الحارقة الملتهبة، نعم كسعادة أمي في يوم ميلادها، وأنا أحضر لها حفلة غير متوقعة رغم أنها دائما تقول: "ستة ستة". ولدت في هذا اليوم ولكنه ليس طيب؛ فقد مرت علي أحداث سيئة كثيرة، وأنتظر الأسوأ، وصوت والدي وهو يردد : "لا تعادوا الأيام؛ فقد تعاديكم".

الأيام التي جمعتني بأمي فاطمة بعد واحد وعشرين عامًا من الإنتظار؛ حيث كنت أتلقى العلاج في مستشفى صحم. تقدمت نحوي وأنا أتأوّه وأصرخ من شدة الآلام، وقالت: "أنتِ سارة!" قلت: "نعم!" قالت: "ألم تعرفيني؟!" قلت لها: "من!" قالت: "أمك.. أنا أمك التي لم تلدكِ..". تذكرت وقتها قصتي، وأن أمي عندما أنجبتني تمت مبادلتي بأم أخرى؛ فكانت أمي من الرضاعة.

عيد ميلادها -أمي من الرضاعة- أيضا في ستة ستة، فيال الغرابة أمي، وأمي التي أرضعتني من مواليد ستة ستة!

كل عام يفاجئني أكثر وأكثر بأحداثه وما يحدث فيه؛ فهواؤه المرّ يشق روحي إلى نصفين وأموت وكأنني لا أموت، فأمتطي صهوة اللامبالاة، وينتباني الصمت العجيب، وأذهب في دوامة أخرى.. سنوات من الصخب اللامتناهي، وأمنيات جميلة مرت ودُفنت، ولن تتحقق أصوات أخرى تحتفظ بها الذاكرة، لن أستطيع سماعها مجددًا بأيام العمر الجميلة.. يقال أن لكل إنسان منا أيام جميلة لا تعود؛ تشبه الكبريت في حالة اشتعاله، وكمية الوهج الذي ما يلبث إلا أن ينطفئ بعز توهجه سريعًا وعاجلًا.

ونحن نعيش أيام الإجازة الصيفية في عزّ حرارة الصيف المتعبة، نبحث عن مكان بارد نستظل تحته؛ فالبعض يتجه إلى قبلة الزوار وبهجة الأنظار وجنة الدنيا؛ حيث الجو الجميل والهواء العليل والخريف في محافظة ظفار، والبعض الآخر يتوجه إلى دول أخرى؛ بحثا عن الراحة والاستجمام والجو البارد، وليس الجميع قادر على قضاء الإجازة خارج بلده؛ فالأغلب يبقى في الديار ولا يتمكن من السفر لظروف الحياة وغلاء المعيشة وعدم توفر الإمكانيات لذلك، والبعض يفضل السياحة الداخلية بين محافظات السلطنة ومناطقها التي تتمتع بجمال الطبيعة وكل ما ينقصها الخدمات والمرافق العامة التي ما نزال نكرر أنها بحاجة لوقفة جادة من أجل تنشيط الحركة السياحية والاقتصادية في البلد.

يختال وجهك أمامي وأنت باعث لي عدة صور لأماكن الإقامة في محافظة ظفار، وتقول لي: "أي مكان أفضل؟"، وأرد عليك: "كل الأماكن جميلة ما دامت ستحتفل بك، وستقيم فيها، ولكن الأماكن خالية مثل "ستة ستة"؛ خالٍ أيضًا، ولم يعد يثير الانتباه؛ فقد عاد باهتًا وشاحبًا كصور الأماكن التي بعثتها لي، والتي -هي الأخرى- أصبحت شاحبة يعتريها صمت طويـل جدًّا لا يمكن أن أصف مقداره.

تمر الأيام التي كان لها أثر كبير على صقل هذا الفكر وتشبّع هذه الذاكرة وتحمّل هذا القلب للكثير. وكتفي اليمنى التي تحتاج إلى علاج في إحدى الدول المتقدمة في القطاع الطبي، وهو أمر لا أستطيع القيام به لزيادة التكاليف العلاجية، وربما تتهالك ككتفي اليسرى.. لن تعود هناك كتف أتكئ عليها؛ لذا من الأفضل ان أتوكل على الله وعلى نفسي فقط.